ثقافة الحياة وثقافة القتل
الإسلام دين الحياة ، وليس دين قتل أو إجرام ، هو دين رحمة ، ودين إنسانية ، ودين حضارة ورقي ، سبيله البناء لا الهدم ، والتعمير لا التخريب ، والصلاح والإصلاح لا الفساد ولا الإفساد .
وإننا لنعجب أشد العجب من أناس ارتدوا عباءة الإسلام ، وتسموا بأسماء أهله أو حتى باسم نبيه أو أسماء صحابته الكرام ، وحفظوا كتابه أو بعضا منه لكنه لا يجاوز حناجرهم ، وتشدقوا بنصوص ربما كانت من صحيح السنة ، غير أنهم لم يفهموها، فانحرفوا بها عن مسارها وسياقها ، فضلّوا وأضلّوا ، وحادوا عن سواء السبيل ، حتى رأينا بعض شبابهم يلقون أنفسهم على الموت مغرراً بهم ، ومع الأيام والسنين وتمادي هؤلاء الضالين في ضلالهم واحترافهم هذا الضلال ، ومحاولة إقناع أنفسهم به ، كمن يكذب ويكذب ويكذب حتى يصدق كذب نفسه ، استطاع هؤلاء الإرهابيون أن يوهموا بعض اليافعة والشباب بأنهم على الحق الذي لا مرية فيه ، وإلا فكيف يقدم هؤلاء على العمليات الانتحارية لولا محو عقولهم سواء بالإلحاح المستمر على تأصيل المعاني الخاطئة في نفوسهم ، أم عن طريق إفسادها بالمخدرات والمنشطات وغيرها ؟ مما يتطلب منا جميعا جهدًا غير عادي في بيان وجه الحق ، وتفنيد شبه المبطلين الضالين المضللين .
وهذا كله يتنافى ويتناقض مع تعاليم ديننا القائم على الرحمة واليسر ، والسماحة والإنسانية ، وعلى مكارم الأخلاق لا على سيئها ولا أراذلها ، فقد بعث الله نبينا محمداً (صلى الله عليه وسلم ) رحمة للعالمين ، فقال سبحانه للحبيب ( صلى الله عليه وسلم ): “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ “(الأنبياء: 107), للعالمين أجمعين ، ليس للمسلمين وحدهم ، ولا للمؤمنين وحدهم ، ولا للموحدين وحدهم ، بل هو رحمة للناس كافة عربهم وعجمهم أبيضهم وأسودهم ، وقد عرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نفسه فقال : ” إنما أنا رحمة مهداة “. (أخرجه الحاكم في المستدرك ), بأسلوب القصر أيضا في تناغم دلالي وبلاغي رائع بين النص القرآني والنص النبوي.
ووصف رب العزة نفسه بالرحمة في مواطن عديدة من كتابه العزيز, فقال سبحانه: ” وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ” ( الأنعام : 133), ويقول سبحانه : ” وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ” (الكهف : 58), ويقول عز وجل : ” كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ” (الأنعام : 54) , ويقول عز وجل : ” فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ” ( الأنعام :148), ويقول سبحانه : ” وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ “( الأعراف:156), ويقول جل وعلا : ” مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا” ( فاطر : 2), ويقول سبحانه وتعالى : ” قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ” ( الزمر : 53 ) ويقول سيدنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) : ” الراحمون يرحمهم الله ” (أخرجه أبو داود والترمذي ), ويقول عليه الصلاة والسلام : ” من لاَ يرحَم لا يُرحَم ” (أخرجه الشيخان) , ويقول ( صلى الله عليه وسلم ) : ” إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ” ( أخرجه الشيخان ) ، ويقول عليه الصلاة والسلام : ” إن الرفق لا يكون في شئ إلا زانه , ولا ينزع من شيئ إلا شانه” ( أخرجه مسلم), ويقول ( صلى الله عليه وسلم ) : ” لن تدخلوا الجنة حتى تراحموا, فقالوا :كلنا رحيم ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ليست رحمة بعضكم لبعض إنما رحمة العامة, رحمة الناس جميعًا ” (أخرجه الحاكم في المستدرك ) , ولقد ضرب ( صلى الله عليه وسلم ) أروع المثل في الرحمة, في مواطن عديدة، منها : أنه ( صلى الله عليه وسلم) رأى جملا تذرف عيناه بالدمع فنادى صاحب الجمل, وقال : يا صاحب الجمل اتق الله في البهيمة التي ملكك الله إياها ، فإن جملك قد اشتكى إلى أنك تجيعه وتدئبه – أي تتعبه وتشق عليه- أخرجه أبو داود وأحمد.
أما القاسية قلوبهم من عدم ذكر الله والغفلة عما ستئول إليه عاقبة كل منا ، فقد تملكتهم الأنانية فصاروا لا يشعرون بجوع جائع طالما أنهم شبعوا ، ولا بمرض مريض لا يجد ما يتداوى به طالما أن الله عز وجل قد أنعم عليهم بموفور الصحة والعافية ولاببؤس يتيم ، ولا مسكين ، ولا أرملة ، ولا شيخ فانٍ لا يجد ما يقيم أوده وحياته ، فنذكر هؤلاء جميعا بقول الحبيب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) : “والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم” أخرجه البيهقي ، والطبراني , وقوله : ” المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا “, وقوله عليه الصلاة والسلام : ” مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى ” ( البخاري ومسلم ).
كما نؤكد أن قسوة القلب دليل على ضعف الإيمان وربما انعدامه ، كما أن القرآن الكريم ذكرها في موضع الذم والوعيد ، فقال سبحانه : ” أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ” سورة الزمر آية (22) ” ، ويقول سبحانه : ” أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ” ( الحديد:16) ، ويقول (عز وجل) : ” ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ” ( البقرة : 74 ).