في إطار تجديد الخطاب الديني
حوائج الفقراء قبل عمرة الأغنياء
في إطار تجديد الخطاب الديني
حوائج الفقراء قبل عمرة الأغنياء
وزير الأوقاف
أكدنا في المقال السابق أننا نتجاوز مرحلة التقعيد والتنظير إلى ميدان التطبيق العملي، وفي هذا المقال نعطي أنموذجين عمليين للتجديد في تناول الموضوعات التي تشغل بال الوطن والمواطن، وبخاصة في خطبة الجمعة، حيث تدور خطبة الجمعة اليوم حول موضوع:
“حرمة التلاعب بأقوات الناس وحاجاتهم الأساسية”
ذلك أن العلماء يقررون أنه حيث تكون المصلحة فثمة شرع الله، فقضاء حوائج الناس، وتحقيق احتياجاتهم الضرورية والأساسية واجب شرعي ووطني، قد يكون واجبا عينيا، وقد يكون واجبا كفائيا، وفق الظروف والمسئوليات والمواقع والقدرة على الإسهام في حل المشكلات.
وقد نهى الإسلام عن كل ألوان الغش والاحتكار، وتطفيف الكيل أو الميزان وبخس الناس حقوقهم أو بعضها، فقال رسولنا (صلى الله عليه وسلم) : “من غشنا فليس منا”، وقال (صلى الله عليه وسلم) : “من غش أمتي فليس منا”، وفي رواية عند الإمام مسلم في صحيحه: “من غش فليس منا” بحذف المفعول، ليكون عاما، إذ لا يليق بالإنسان السوي أن يغش المسلم أو غير المسلم، فالغش مرفوض على إطلاقه، وهو داء على كل حال، على أن هذا العش قد يكون في الثمن، وقد يكون في الجودة، وهو في كل الأحوال سواء، فهو غش على كل حال، فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : مر على صبرة طعام “أي كومة طعام” فأدخل يده فيها، فأصابت أصابعه بللا، فقال: “يا صاحب الطعام ما هذا؟” قال: “أصابته السماء يا رسول الله” ، فقال (صلى الله عليه وسلم) : “أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس”.
وقد نهى (صلى الله عليه وسلم) عن كل ألوان الاحتكار و اكتناز الطعام قصد شُحّه وإغلاء ثمنه على الناس، فقال (صلى الله عليه وسلم) : “من احتكر حكره يريد أن يغلي بها على المسلمين فهو خاطيء” وفي رواية “قد برئت ذمة الله منه”، وقال (صلى الله عليه وسلم) : “من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد بُريء من الله، والله بَريء منه، وأيما أهل عرضة (أي محلة أو مكان) ظل فيهم امرؤ جائعا فقد برئت منهم ذمة الله” وقال (صلى الله عليه وسلم) : “من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقا على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة”.
وفي ذلك كله ما يؤكد حرمة استغلال حوائج الناس أو التلاعب بأقواتهم وحاجاتهم الأساسية، سواء في طعامهم كما يحدث ممن يتدخلون لإحداث الأزمات في الأسواق، أم فيما لا تقوم حياتهم الشخصية أو الاقتصادية إلا به كالتلاعب في منظومة توزيع “اسطوانات الغاز” أو الأسمدة التي تكاد حياة الفلاحين وزراعتهم تتوقف على توفرها وسهولة الحصول عليها، أو التلاعب في سلع حيوية كالأدوية، أو الحديد، أو الأسمنت، ونحو ذلك من الأزمات التي لا نكاد نخرج من واحدة منها حتى نقع في الأخرى، على أنني لا أنحى باللائحة على مجرد الاحتكار، إنما هناك مشكلات وحلول ينبغي أن تهتم بها كل في نطاق اختصاصه.
وعلى قدر ما حذر الإسلام من هذا التلاعب فإنه جعل جزاء قضاء حوائج الناس عظيما عند الله عز وجل فقال (صلى الله عليه وسلم) : “من فرج عن مسلم كربة فرج الله عز وجل عنه كربة من كرب يوم القيامة”، “والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه”، وقال (صلى الله عليه وسلم) : “إن لله عز وجل عبادًا اختصهم بقضاء حوائج الناس حببهم في الخير وحبب الخير إليهم، إنهم الآمنون من عذاب الله يوم القيامة”.
الأنموذج الثاني: خطبة الجمعة القادمة التي تدور حول موضوع “حوائج الفقراء قبل عمرة الأغنياء .. خطوة على طريق التكافل الاجتماعي” وهو مرتبط أشد الارتباط بالموضوع السابق، فمحور الموضوعين وبؤرة اهتمامهما هو قضاء حوائج الناس، وبخاصة الكادحون والأشد فقرا واحتياجا”.
حكم العمرة:
يختلف الفقهاء حول حكم العمرة بين الوجوب والندب، والثاني أرجح، وبما أن الفرض المجمع عليه هو الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج، فإن المرجح لدينا أن يكون الحرص الحقيقي على أداء الفريضة، ويأتي أداء العمرة تابعا ومتلازما معها.
على أن حديثنا هنا إنما يتوجه في أساسه إلى من يحجون ويعتمرون مرات ومرات تطوعا وتنفلا مع احتياج بعض أهليهم وجيرانهم وبني وطنهم إلى الطعام والكساء والدواء، واحتياج أوطانهم إلى مقومات أساسية لا تستقيم حياة أبنائه إلا بها، وبخاصة في مجالات الصحة والتعليم، وهؤلاء نذكرهم بأمرين:
أولهما: أن قضاء حوائج الناس والقيام بمتطلبات حياتهم ليس مجرد نافلة، إنما هو واجب شرعي ووطني، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم”، ويقول الحق سبحانه: “أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)” (سورة الماعون)، فإذا كان هذا جزاء من لا يحض بأن كان لا يملك، فما بالكم بمن لا يؤدي حق الله عز وجل في ماله؟، يقول الحق سبحانه: “…وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿34﴾ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴿35﴾” (سورة التوبة)، ويقول سبحانه مخاطبا أهل النار: “مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)” (سورةالمدثر)، ويقول سبحانه: “هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ(38)” (سورة محمد)، وعلى العكس من ذلك فإن جزاء المحسنين المنفقين جد عظيم عند الله عز وجل وعند الناس، يقول الحق سبحانه وتعالى: “مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)” (سورة البقرة)، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “ما من يوم إلا ويُنادى مَلكان يقول أحدهما: (اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا”.
الآخر: أن قضاء حوائج الناس مقدم على ألف حجة وحجة بعد حجة الإسلام التي هي حجة الفريضة ومن ألف عمرة نافلة، فالأول الذي هو قضاء حوائج الناس إصلاح للفرض والمجتمع، والآخر الذي هو حج النافلة وعمرة النافلة لا يخرج عن دائرة صلاح النفس، والإصلاح مقدم على الصلاح، وقد يصير ذلك ضروريا ومحتما في مثل الظروف الاقتصادية التي نمر بها.
كما أن الأول مصلحة عامة والثاني يدخل في دائرة المصالح الخاصة، والعام مقدم على الخاص، والأعم نفعا مُقدم على المحدود النفع أو القاصر النفع.
والأول الذي هو قضاء حوائج الناس لا يخرج عن كونه فرض عين أو فرض كفاية، ولا شك أن الفرض والواجب عينيا كان أم كفائيا مقدم على سائر النوافل، لا على حج النافلة وعمرة النافلة فحسب.
وعليه فإنني أدعو جميع الأغنياء والقادرين إلى توجيه أموال العمرة هذا العام إلى قضاء حوائج الناس، ومتطلبات الوطن التي تتوقف عليها حياتهم.