أهم الأخبارمقالات

فقه المستجدات وضرورة تقنين العمرة

Mokhtar_Gomaa_7

أ.د/ محمد مختار جمعة

وزير الأوقاف

          ليس  بدعًا أن نذكّر بأن الفتوى تتغير بتغير الحال والزمان والمكان وأحوال المستفتين ، وأن الإمام الشافعي (رحمه الله ) عندما أرسى دعائم وأسس مذهبه الفقهي بالعراق ثم تحول بعد ذلك إلى مصر  أعاد النظر في كثير من المسائل لتغير المكان وأحوال المستفتين ، حتى عرف ما أفتى به في العراق بالمذهب القديم وما أفتى به في مصر بالمذهب الجديد .

         وليس بدعًا أن نذكّر – أيضًا – بضرورة ترتيب الأولويات ، بتقديم الواجبات على النوافل، والضروريات والحاجيات على الكماليات والتحسينات ، وأن نذكر بحديث النبي (صلى الله عليه وسلم) عندما سأله أحد الناس عن الإسلام ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا ، فقال الرجل : والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا ولا أنقص ، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم ) أفلح إن صدق ، وفي رواية  ” دخل الجنة إن صدق ” .

         والذي لا خلاف فيه ولا جدال ولا مراء هو أن الحج فرض كالصلاة والصيام والزكاة ، غير أن رحمة الله بعباده جعلته على المستطيع بدنيًا وماليًا ، يقول سبحانه وتعالى : ” ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ” فمن استطاع الحج ولم يكن قد أدى الفريضة فليعجل .

         لكن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عندما قال : أيها الناس إن الله عز وجلّ قد كتب عليكم الحج فحجوا ، قال رجل أفي كل عام يا رسول ؟ فلم يرد عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حتى عادها الرجل ثلاثًا ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لو قلت نعم لو جبت ، ولو وجبت لم تعملوا بها  ، ولن تستطيعوا أن تعملوا بها : الحج مرة ، فمن زاد فهو تطوع ، ومعلوم أن النافلة من أداها فله أجرها وثوابها ، ومن لم يؤدها فلا شيئ عليه .

         لكن الإنسان العاقل الفاقه لدينه إذا كان بين النافلة وفروض الكفايات قدّم فروض الكفايات على النوافل ، ولا ينكر أحد أن إطعام الجائع ، وكساء العاري ، ومداوة المريض ، وتوفير مالا تقوم حياة الأمة إلا به في مجالات الصحة ، والتعليم ، والطرق ، وتجهيز الجيوش،  من  صميم فروض الكفايات ، وأن كل ذلك مقدم على نوافل العبادات حتى لوكانت حجًا أو عمرة .

وأسجل الآتي :

1- أن المؤمن يعمل وفق مراد الله ، لا وفق هواه ولا عواطفه ولا مراده  هو ، فحيث يتطلب حال الأمة التضحية بالنفس يبذل نفسه رخيصة في سبيل الله تعالى ، وحيث يتطلب المقام التضحية بالمال لا بالنفس يقدم ماله وما يملك رخيصين في سبيل الله تعالى ، لا أن يضع المال حيث يستوجب المقام التضحية بالنفس ، ولا  أن يقدم النفس حيث يتطلب المقام بذل المال .

       وعليه ففي حالة رخاء الأمم والشعوب ، بحيث لا يكون بين المسلمين جائع لا يجد ما يسد جوعته ، ولا عارٍ لا يجد ما يستر عورته ، ولا مريض لا يجد ما يتداوى به ، ولا جيش لا يجد من يجهزه ، ولا طريق للأمة لا يجد من يعبّده ، فهنا نحث على تكرار الحج والعمرة ، ونعود إلى الأصل وإلى نص حديث النبي (صلى الله عليه وسلم ) : ” تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة  ” .

       أما أمة فيها آلاف الجوعى والمرضى والمشردين ، فسد جوعة جائعها ، وستر عورة عاريها ، ومداوة مريضها ، وإحصان شبابها وفتياتها ، مقدم على ألف حجة وحجة وألف عمرة وعمرة بعد حجة الإسلام التي هي فرض على المستطيعين بدنيًا وماليًا من أبناء الأمة .

       أما من يأبى إلا أن يسير وفق عاطفته وهواه بعيدًا عن إعمال العقل وترتيب الأولويات الشرعية فنذكّره بما نقله حجة الإسلام الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين ، بما رواه عن أبي  نصر التمار  أن رجلا جاء يودّع بشر بن الحارث وقال: قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء؟ فقال له كم أعددت للنفقة ؟ فقال: ألفي درهم، قال بشر: فأي شيء تبتغي بحجك؟ تزهدًا أو اشتياقًا إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله؟ قال: ابتغاء مرضاة الله، قال: فإن أصبت مرضاة الله تعالى وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى أتفعل ذلك؟ قال: نعم ، قال اذهب فأعطها عشرة أنفس، مدين يقضي دينه، وفقير يرم شعثه، ومعيل يغني عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك تعطيها واحدًا فافعل، فإن إدخالك السرور على قلب المسلم وإغاثة اللهفان وكشف الضر وإعانة الضعيف أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام، قم فأخرجها كما أمرناك، وإلا فقل لنا ما في قلبك؟ فقال: يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي، فتبسم بشر – رحمه الله – وأقبل عليه وقال له: المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطرًا فأظهرت الأعمال الصالحات، وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين.

2-أن قضاء حوائج الناس قائم على صلاح النفس وإصلاح الفرد والمجتمع معًا ، أما حج النافلة وتكرار العمرة فهو دائرة الصلاح ، ولا شك أن اجتماع الصلاح والإصلاح معًا مقدم على الصلاح وحده ، وبخاصة في مثل تلك الظروف التي تمر بها أمتنا ويمر بها وطننا .

         كما أن الأول مصلحة عامة  ، والثاني يدخل في دائرة المصالح الخاصة، والعام مقدم على الخاص، والأعم نفعًا مقدم على محدود النفع أو قاصر النفع.

والأول الذي هو قضاء حوائج الناس لا يخرج عن كونه فرض عين أو فرض كفاية ، ولا شك أن الفرض والواجب عينيًا كان أم كفائيًا مقدم على سائر النوافل لا على حج النافلة وتكرار العمرة فحسب، ولهذا فإننا نرى النبي (صلى الله عليه وسلم )  يقدم قضاء حوائج الناس على الاعتكاف في مسجده هو ( صلى الله عليه وسلم )    : «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ, وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ, أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً, أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا, أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا, وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ – يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ – شَهْرًا, وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ, وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ , وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامِ ».

3- من الواجبات الشرعية لكل مسلم أن ينضبط لديه ميزان الدين الصحيح، فيرتب الأوامر الشرعية والتعاليم الإسلامية حسب وضعها في دين الله تعالى، حتى لا يؤخر ما قدمّه الدين أويقدِّم ما أخّره، أو يضيع الفاضل بانشغاله بالمفضول، فيظن المرء أنه محسنٌ والحال أنه مخدوع  .

         والقرآن الكريم حافل بكثير من الآيات التي ترغب المسلم في السعي نحو الأفضل والأكمل في كل شيء، وتطالبه بأن يستفرغ جهده لتحقيق الأولى في عمله الديني والدنيوي معًا ، من هذه الآيات قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها} [الأعراف: 145] ، وقوله جل شأنه: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا }[النساء: 86]، وقوله سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]، وقوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }[الإسراء:  53] ، إلى غير ذلك من الآيات التي يشتمل عليها القرآن الكريم وكلها تدعو المسلم بالسعى الدؤوب نحو الأفضل والأكمل في كل شيء .

        ويتضح من توجيهات النبي  (صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه في مواضع عديدة أن تقديم الأولويات من أوجب الواجبات، لأنها تحدث توازنًا في حياة الإنسان ومعاشه.

4- أن قضاء حوائج الناس والقيام بمتطلبات حياتهم ليس مجرد نافلة، إنما هو واجب شرعي ووطني، يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم ): «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ» [ أخرجه البزار ]، ويقول الحق سبحانه : { أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [ الماعون 1 – 3 ] فإذا كان هذا جزاء من لا يحض غيره وهو لا يملك فما بالنا بمن لا يؤدي حق الله تعالى  يقول الحق سبحانه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة34)، ويقول سبحانه مخاطبًا أهل النار : {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ } [المدثر: 42 – 44]، ويقول سبحانه : {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُم مَّنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ }[محمد: 38]، وعلى العكس من ذلك فإن جزاء المحسنين المنفقين جد عظيم عند الله تعالى  وعند الناس، يقول الحق سبحانه : {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] ، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم ): «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا »[ متفق عليه] .

5- بناء على كل ماسبق فإني في ظل ظروفنا الاقتصادية الراهنة أدعو إلى ضرورة تقنين السفر للعمرة بألا يسمح بتكرارها قبل مضي خمس سنوات على العمرة الأولى ، وأن يكون الأمر كذلك بالنسبة للحج ، على أن يعاد النظر في القرار عند تحسن الأوضاع الاقتصادية للبلاد .

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى