فرية يجب أن تدحض (3)
ذكرنا سالفا أن من أهم الشبهات وأكثرها فرية على الإسلام ادعاء أنه انتشر بحد السيف , وبينا أن من يمعن النظر في فلسفة الحرب في الإسلام يجد أنها محصورة في دفع الاعتداء ورد العدوان والبغي , ودللنا على صحة ذلك بعدد من النصوص القاطعة , كما تناولنا جانبًا من غزوات الرسول (صلى الله عليه وسلم) التي كانت تطبيقًا عمليًّا للفهم الصحيح لنصوص القرآن الكريم , فلم تكن غزوة واحدة فيها بغي أو جور أو اعتداء بلا سابقة اعتداء أو كيد أو تآمر أو خيانة من العدو .
وهنا نؤكد أن من أخلاق الفرسان التي أصَّلها الإسلام في فلسفة القتال أنه لا قتل للمدنيين أو لغير المقاتلين ، فقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يوصي قـادة جيشه بقـوله : (انْطَلِقُـوا بِاسْمِ اللهِ وَبالله وَعَلَى مِلَّـةِ رَسُـولِ اللهِ ، وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا ، وَلَا طِفْلًا ، وَلَا صَغِيرًا ، وَلَا امْرَأَةً ، وَلَا تَغُلّوا) , وفي روايـة أخـرى: (وَلَا تَغُلّـوا ، وَلَا تَغْـدِرُوا ، وَلَا تَمْثُلُـوا، وَلَا تَقْتُلُـوا وَلِيدًا).
وفي وصية أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) لأحد قادة جنده : ” وَإِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً ، وَلَا صَبِيًّا ، وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا ، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا ، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا ، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً ، وَلَا بَعِيرًا ، إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ ، وَلَا تَحْرِقَنَّ نَحْلًا، وَلَا تُغَرِّقَنَّهُ ، وَلَا تَغْلُلْ ، وَلَا تَجْبُنْ “.
وقد شدد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في النهي عن قتل الأطفال أو الـذريـة تشـديدًا كبـيرًا ، وبلغـه (صلى الله عليه وسلم) قتل بعض الأطفال فوقف يصيح في جنده : (مَا بَالُ أَقْوَامٍ جَاوَزَ بِهِمُ الْقَتْلُ إِلَى الذُّرِّيَّةِ ، أَلاَ لاَ تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً أَلاَ لاَ تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً ).
وقد نهى (صلى الله عليه وسلم) عن قتل جميع من لا يقاتل وخاصة النساء ، فلما رأى امرأة مقتولة ، وكان من حالها أنها لا تقوى على القتال استنكر (صلى الله عليه وسلم) ذلك بشدة ، وقال : (مَنْ قَتَلَ هَذِهِ؟ مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ) ، مما يؤكد أنه لا قتل على المعتقد قط , وأن القتل ليس مقابلًا للكفر ، إنما هو مقابل لدفع القتل ورد الاعتداء , حيث يقول الحق سبحانه : { وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ َقَوِيٌّ عَزِيزٌ}.
فالقتال في الإسلام مقصور على رد الاعتداء دون تجاوز ، حيث يقول الحق سبحانه: { وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }.
ومما يؤكد أن الحرب في الإسلام إنما هي لرد الاعتداء ودفع العدوان دون أي تجاوز أو بغي أو إسراف في الدماء ، ما شرعه الإسلام في معاملة الأسرى من حسن معاملتهم والإحسان إليهم ؛ حيث يقول الحق سبحانه : {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا .
وقـد دعا نبينـا (صلى الله عليه وسلم) إلى الرفـق بالأســرى ، فقـال: (اسْتَوْصُوا بِالأسَارَى خَيْرًا) ، وقد أوصى أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسرى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الطعام .
وأخيرًا نؤكد أن البشرية لو بذلت في سبيـل السـلام والبنـاء ، والنماء والتنمية , ورعاية الضعفاء والمحتاجين والمهمشين في العالم معشار ما تنفقـه على الحروب والتسليح ، وتخلى الأنانيون عن نفعيتهم وأنانيتهم , لانصلح حال البشرية جمعاء ، ولتغير وجه البسيطة , ولعاش العالم كله في سلام وأمان، فإن لم يكن ذلك فما لا يدرك كله لا يترك كله ، ويجب على كل عاقل رشيد مؤمن بالإنسانية محب للسلام أن يكون في جانب السلام والبناء والتعمير لا جانب الاحتراب والتدمير , فكل ما يدعو إلى السلام والبناء وعمارة الكون يتوافق وصحيح الأديان , وكل ما يدعو إلى القتل والتخريب والتدمير يتناقض مع سائر الأديان السماوية , بل يتناقض مع كل الأخلاق والقيم الإنسانية والأعراف والمواثيق الدولية , مما يتطلب منا جميعًا العمل معًا على ترسيخ وتأصيل كل معاني السلام والوقوف في وجه دعاة الحرب والدمار من أجل سعادة البشرية جمعاء وتحقيق أمنها وسلامها.