سرقة المال العام وإهداره
لاشك أن الإسلام قد أكد على حرمة الأموال وقرنها بحركة الدماء ، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) فى حديثه الجامع فى خطبة حجة الوادع مخاطبًا الناس جمعيًا : أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا (يوم عرفة) في بلدكم هذا (مكة المكرمة بلد الله الحرام) ، اللهم بلغت ، اللهم فاشهد ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ، ويقول (صلى الله عليه وسلم) : “كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ” ويقول (صلى الله عليه وسلم) : “إن أناسًا يتخوضون في مال الله (عز وجل) بغير حق فلهم النار يوم القيامة” , ويقول الحق سبحانه وتعالى : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً ” ( سورة النساء: 29-30 ) .
ولا شك أن سرقة المال العام أو الاعتداء عليه أشد حرمة وجرمًا من المال الخاص ، لأن المال العام تتعلق به حقوق كثيرة , فالمال العام ملك للمجتمع بجميع أفراده ، وأفراد المجتمع جميعًا متعلقون به , مقاضون من تمتد يده إليه أمام الله (عز وجل) يوم القيامة , يقول الحق سبحانه : ” وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ” (آل عمران : 161) , ولما دخل عبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) على عبد الله بن عامر الحضرمي في مرض موته ، قال الحضرمي : ألا تدعو الله لنا يا بن عمر ، فقال ابن عمر (رضي الله عنهما) : ” إن الله عز وجل لا يقبل صلاة بغير طهور , ولا صدقة من غلول , وقد كنت على البصرة ” , أي أنك كنت واليا , وربما يكون قد تسرب إلى مالك من المال العام ما يحول بينك وبين قبول الدعاء ما لم تكن ذمتك من ذلك براء غاية البراءة , نزيهة غاية النزاهة , بعيدة كل البعد عما فيه أدنى شبهة أو ريب , ولذلك قيل : إن المتقين إنما سموا متقين لأنهم اتقوا ما لا يتقيه غيرهم , وكان بعض الصحابة والتابعين وأتباعهم من الزهاد يتركون بعض الحلال مخافة أن تكون فيه شبهة حرام , ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَى ، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ ” (رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ) .
وقد يظن أو يتوهم بعض الناس أن سرقة المال العام تنحصر في بعض أشكال السطو أو الاختلاس غير أن الأمر أوسع من ذلك بكثير , فالتهرب من سداد مستحقات الوزارات والجهات والهيئات والمؤسسات المملوكة للدولة هو في حكم سرقة المال العام , بل هو سرقة حقيقية وفعلية له.
وقد أصدرنا في وزارة الأوقاف بيانًا أكدنا فيه أن سرقة الخدمات لا تختلف عن سرقة الأموال والسطو عليها , لأن الخدمات في الحقيقة هي مقومة بمال , فمن يسرق الكهرباء , أو يسرق المياه , أو يتهرب من سداد قيمة تذاكر القطارات أو مترو الأنفاق أو غيرهما , كمن يسرق المال سواء بسواء.
كما أن من يتحايل على صرف ما لا يستحق كمن يقوم بتزوير بعض الأوراق للحصول على دعم لا يستحقه آكلٌ للسحت , لأنه يأخذ ما لا حق له فيه , فإذا كان القانون قد حدد فئات معينة ودخلاً معينًا محددًا شهريًا لاستحقاق السلع التموينية المدعومة فإن كل من يصرف هذه السلع بالمخالفة لشروط صرفها يُعد آثما , لأنه يصرف ما لا يستحق من جهة ويؤثر على مستوى الدعم الحقيقي الذي ينبغي أن يقدم للمحتاجين الحقيقيين أو للأكثر فقرًا واحتياجًا من جهة أخرى , وكذلك من يتحايل للحصول على وحدة سكنية أو أي منفعة بالمخالفة للواقع والشروط المحددة .
ويستوي مع هؤلاء في الإثم والمعصية من يعينهم على ذلك أو يغض الطرف عنه أو يتقاعس عن وضع الأمور في نصابها أو تحصيل ما أسند إليه تحصيله من مستحقات المال العام .
وعلينا أن نتذكر دائمًا قول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ” (صحيح البخاري) , وسيسأل الله (عز وجل) كل راع عما استرعاه فيه , أحفظ أم ضيع.