:أهم الأخبارمقالات

المقاصد الضرورية الكلية

في إطار مشروعنا التجديدي المبني على وضع الأمور في نصابها من حيث التفرقة بين الثابت والمتغير , ورفع القداسة عن غير المقدس من الأشخاص والآراء البشرية ، وقصر التقديس على الذات الإلهية وعلى كتاب الله (عز وجل) وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم) , من خلال القراءة العصرية للنصوص , تلك القراءة الرامية إلى الخروج من دوائر الحفظ والتلقين والتقليد إلى فضاءات الفهم , والتفكير , والتأمل , والتدبر , والاجتهاد في ضوء مقتضيات الواقع ومستجداته – تأتي قراءتنا للمقاصد العامة الضرورية المعبر عنها بالكليات أو المقاصد الكلية.
وقد نبعت هذه الفكرة وتبلورت من شدة اهتمامي بقضية الدولة الوطنية وبيان مشروعيتها , وما وصل إليه حال بعض الجماعات المتطرفة المنكرة لفضل الوطن عليها , والتي حاولت وضع الناس في تقابلية خاطئة بين الدين والدولة , فإما أن تكون – في منظورهم- مع الدين أو مع الدولة وكأنهما نقيضان, مع أن الدين لا ينشأ ولا يُحمى ولا يحفظ في الهواء الطلق , إنما لا بد له من دولة تحميه وترفع لواءه عاليًا , وقد قرر الفقهاء أن العدو إذا دخل بلدًا من بلاد المسلمين صار الجهاد ودفع العدو فرض عين على أهل هذا البلد : رجالهم ونسائهم , كبيرهم وصغيرهم , قويهم وضعيفهم , مسلحهم وأعزلهم , كل وفق استطاعته ومكنته , حتى لو فنوا جميعًا , ولو لم يكن الدفاع عن الديار والأوطان مقصدًا من أهم مقاصد الشرع لكان لهم أن يتركوا الأوطان وأن ينجوا بأنفسهم وبدينهم .
وقد نظرت في أمر هذه الكليات من حيث عددها وترتيبها فرأيت أنها ليست قرآنًا ولا سنة , إنما هي آراء واجتهادات في ضوء رؤية العلماء والمجتهدين لما يجب الحفاظ عليه باعتباره أمرًا ضروريا .
وبما أن الحفاظ على الوطن وعلى بناء الدولة وكيانها لا يقل أهمية عما ذكره العلماء من الكليات الأخرى , إذ لا يوجد عاقل ولا وطني شريف لا يكون على استعداد لأن يفتدي وطنه بنفسه وماله , فإننا نرى ضرورة إدراج حفظ الأوطان في عداد هذه الكليات , ولا سيما في زماننا هذا , حيث تتعرض أوطاننا للاستهداف ومحاولات التفكيك , مما يجعلنا نقرر وباطمئنان أن الكليات ينبغي أن تكون ستًّا , هي : الدين , والوطن , والنفس , والعقل , والمال , و”النسل والنسب والعرض”.
على أن الذي يعنينا في هذه القراءة هو الرؤية العامة للمقاصد وما ينبغي أن يندرج تحتها من الأمور الكلية ، فالحفاظ على الدين مقصوده الأسمى الحفاظ على أصل الدين ومقاصده ، أما عند التفصيل فقد يتقدم حفظ النفس على التمسك ببعض الفروع ، فللإنسان المضطر أن يأكل من الميتة المحرمة شرعًا ما يحفظ به أصل النفس ، كما أن الإنسان الوطني صاحب الدين قد يقتضي الأمر افتداءه لوطنه بنفسه وماله , وعليه أن يلبي نداء وطنه دينًا ووطنية ، كما أن الإنسان الحر الكريم قد يذود عن عرضه بنفسه وماله , وقد يذود عن ماله بنفسه , وفي الحديث الشريف : ” من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد” ، وقد يحتمل الأذى اليسير لدفع الضرر الكبير, فقد يتسامح الإنسان في حق ماله أو جزء منه حفاظا على نفسه , وقد يُظهر مضطرًا خلاف ما يبطن حفاظًا على النفس أيضا , كمن أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، وكما قرر الفقهاء والأصوليون أن المفسدة اليسيرة قد تحتمل لتحقيق مصلحة كبيرة، ولا تدفع المفسدة اليسيرة بتضييع المصلحة الكبيرة.
وقد أحاط الإسلام هذه الكليات بالرعاية والعناية فنهى عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وشرع القصاص حماية للدماء وصيانة لها ، فقال سبحانه : ” وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ” ، ونهى سبحانه وتعالى عن أكل أموال الناس بالباطل فقال سبحانه : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ” ، وأمر بحماية العقل وصيانته عن كل ما يفسده من كل مسكر ونحوه ، فقال سبحانه : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ” ، كما أمر بحفظ العرض والنسل والنسب ، وجماع ذلك كله في الوقوف عند حدود الله تعالى اتباعًا لأمره واجتنابًا لنهيه وعملًا بكتابه (عز وجل) وسنة نبيه (صلى الله عليه وسلم) .
المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى