:أهم الأخبارمقالات

في رحاب جامعة القاهرة

     في حوار بناء مع طلاب جامعة القاهرة وبمشاركة رئيسها أ.د/ محمد عثمان الخشت كانت محاضرتنا (تفكيك الفكر المتطرف) من منطلق ضرورة مواجهة الجمود الفكري والوقوف عند ظواهر النصوص وتفنيد أباطيل الجماعات الإرهابية والمتطرفة ، مع تأكيدنا على أهمية التفرقة بين الثابت والمتغير ، وبين ما هو بشري وما هو مقدس ، فأكثر الجماعات المتطرفة تحاول أن تضفي على كلام البشر ضربًا من القداسة ، على أن أحدهم قد يجادلك في فهمك للنص القرآني ، ولا يسمح لك أن تناقشه في كلام شيخه المقدس لديه ، مما يوجب علينا وبإلحاح شديد التفريق الواضح بين النص المقدس والنتاج الفكري البشري حول هذا النص ، فالأول ثابت والثاني متغير، ومرتبط بفقه الزمان والمكان والحال ، ولا يجوز إنزال الثابت منزلة المتغير ولا العكس ، فإنزال الثابت منزلة المتغير هدم للثوابت ، وإنزال المتغير منزلة الثابت طريق الجمود والتحجر والانعزال عن ركب الحضارة بل عن ركب الحياة ، وإذا ميزنا هذا من ذلك تمييزًا واضحًا عالجنا كثيرًا من الإشكاليات ونقضنا أكثر مقولات المتطرفين.

على أن المتطرفين ركزوا على ثلاث تقابليات :

التقابلية الأولى : بين الدين والدنيا، فهم يقولون إما أن تختار الدين أو الدنيا، مع أن واجبنا أن نعمر الدنيا بالدين ، فوضع الناس بين خيارين : إما الدين وإما الدنيا فهم خاطئ يجب تصحيحه ، وما أجمل أن نحيي الدنيا بالدين ، فالدين هو فن صناعة الحياة لا صناعة الموت ، والدين إنما جاء لسعادة البشرية حيث يقول الحق سبحانه : ”طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى” (طه : 1-2) ، ويقول سبحانه : ” الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ” (الرعد : 28- 29 ) ، وهو فن عمارة الكون والتخصص الدقيق في شتى مسائل العلوم ركن أساس في الدين، قال تعالى : ( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) ، وقال سبحانه في العلم والعلماء : ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ).

أما التقابلية الثانية : بين الدين والوطن ، فالأديان السماوية كلها إنما جاءت لسعادة البشرية , ولم تأت لشقائها ، فالمقاصد العليا للأديان إنما تعمل في ضوء جلب المصلحة أو درء المفسدة أو على تحقيقهما معا , وأهل العلم والفقه على أن المصالح العليا للشرائع قائمة على حفظ الدين والنفس والعقل والمال والعرض , فكل ما يؤدي إلى حفظ هذه الخمس هو مصلحة , وكل ما يضر بها هو مفسدة ودفعه مصلحة.

وأما التقابلية الثالثة : بين النص والعقل ، فلا تضارب بين النص والعقل ، كما أننا نحتاج إلى إحياء المناهج العقلية في التعليم ، وإحلال مناهج التفكير محل مناهج الحفظ والتلقين ؛ لأن الجماعات المتطرفة بدأت بالتلقين والحفظ في مسائل الأحكام الجزئية ، وعدم إعمال العقل والمناقشة ؛ لأن العقلية التي تفكر وتناقش لا تنقاد وراء هؤلاء .

    وعلينا أن نُعنى بالفهم المقاصدي للمقصود للنصوص ، فمثلا في قول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ ” ، لو وقفنا عند ظاهر النص فماذا يصنع من يلبس ثوبًا يصعب الأخذ بطرفه ، كأن يرتدي لباسًا عصريًّا لا يمكنه من ذلك ؟ أما لو أخذنا بالمقصد الأسمى وهو تنظيف مكان النوم والتأكد من خلوه مما يمكن أن يسبب للإنسان أي أذى من حشرة أو نحوها ، لتأكدنا أن الإنسان يمكن أن يفعل ذلك بأي وسيلة تحقق المقصد وتفي بالغرض ، فالعبرة ليست بإمساك طرف الثوب ، وإنما بما يتحقق به نظافة المكان والتأكد من خلوه مما يمكن أن يسبب الأذى .

     على أننا يجب علينا أن نمضي وبكل حزم وقوة في مواجهة الأفكار المتطرفة ، وتنمية العقول ، وتصحيح المفاهيم الخاطئة ؛ لأن ذلك يسهم في بناء الشخصية الوطنية ، ونحن في حاجة إلى بناء أوطاننا بسواعدنا وعقولنا .

     وأختم بتسجيلي شهادة هامة حول ارتفاع مستوى الوعي الوطني ، والتحول الإيجابي لدى طلاب جامعة القاهرة الذي تمثل في إقبالهم بكثافة فاقت الألفي طالب لحضور المحاضرة ، مع إنصات وحرص كبير على الاستفادة ، بما يؤكد أن شبابنا بخير ، ووعيه بخير ، وأنه يلفظ كل ألوان التطرف والعنف ، ويبحث عن الفكر الوسطي المستنير ، ودورنا أن نحتضنهم ، وأن نكثف جهودنا في مثل هذه الندوات المثمرة .

 

 

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى