على باب الكريم وأعتاب الحبيب ومقدم الشهر الكريم
على باب الكريم وقفنا نردد : يارب ليس لنا رب سواك فنرجو ه أو ندعوه , جئناك من بلاد بعيدة , بذنوب عديدة , وهموم مديدة , وأمة ممزقة شريدة , وليس للأمر من دونك كاشف , وأنت صاحب الحول والطول , ومن أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون .
بِكَ نستَجِيـــــرُ وَمَـــنْ يُجِيـــرُ سواكـــــا فَـارحم ضعيفاً يحتمـــي بِحِمَاكَــا
* * *
فإن صـحَّ مِـنـكَ الود فالكُـــلُّ هَيّــــنٌ وكُـــلُّ الـذي فـوقَ التُّرابِ تُرابُ
* * *
وإن صح عون الخالق المرء لم يجد عسيـــرًا مــــن الآمـــال إلا ميســـرًا
* * *
وإن لم يكـــن عـــون مـــن الله للفتــى فأول مـــا يجنــى عليــه اجتهاده
وقفنا نشكو إليّه ضعف قوتنا , وقلة حيلتنا , وهواننا على الناس , لكننا لم ولن نقنط أبدًا من رحمته , وقد تمثلت قول زكريا عليه السلام : ” وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً”, فوقفنا ندعو لمصر وأهلها , وللأمة العربية والإسلامية وشبابها , وللعالم كله بالأمن والأمان, وقفنا نعاهده ونرجوه , ونؤمل عفوه وكرمه وندعوه , ونردد :
أحبّك حبّيْن حُـــبّ الهـــــوى | وحُبّـــــاً لأنــــــك أهــــــل لــــــذاك |
فأما الذي هو حُــبّ الهــــوى | فشغلـــي بذاتـك عمّــــن ســــــواك |
وأمـــا الذي أنـــت أهــل لـــــه | فكشفك لي الحُجـب حتـــى أراك |
وقفنا ننظر إلى العرب والمسلمين جاءوا من كل حدب وصوب تلبية لدعوة الحق (عزّ وجلّ) , ونداء أبيهم إبراهيم (عليه السلام) , واستجابة لسنة نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) متوجهين لرب واحد , وقبلة واحدة , وأمل واحد , هو الأمل المشترك في رحمة الله , فقلنا : هذا أمل عظيم يمكن البناء عليه لو تمكنا من تخليص أنفسنا من شرورها وسيئاتها وأنانيتها , فعقدنا العزم على أن نعمل وندعو بلا كلل ولا ملل ، وعلى أن نؤثر العام على الخاص , وما يرضي الله عز وجل على كل ما سواه , وقد ازداد إدراكنا أن العمل للأوطان هو عمل للإسلام , لأن الأوطان هي وعاء الإسلام , ذلك الإسلام العظيم , إسلام الرحمات والبركات , الذي يُظِلُّ الإنسانية كلها بظله , برحمته , بعدله , بسماحته , برقيه , بحضارته , بإنسانيته , وليس إسلام داعش , والإخوان , والقاعدة , وبوكو حرام , والنصرة , وجند الشام ، وأجناد الشيطان ، وأعداء بيت المقدس ، وكل من كان على شاكلة هذه التنظيمات الإرهابية أو انضوى بأي شكل من الأشكال تحت لوائها .
وهناك عند سيدي الحبيب ، حيث تحط الرحال ، وتهفو القلوب والجوارح معا ، وقفنا نسلم على الحبيب (صلى الله عليه وسلم) وعلى صاحبيه الكريمين أول الخلفاء الراشدين ، وأول من أسلم من الرجال ، أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) , وإلى جواره الفاروق عمر (رضي الله عنه) ثاني الخلفاء الراشدين ، فقلنا إنها لأمارة وعلامة ستظل قائمة حجة قوية إلى يوم القيامة على كل من تسوّل له نفسه من قريب أو بعيد الافتئات على صحب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو النيل منهم ، فهم من قال الله عز وجل فيهم : ” وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ” , ومن قال فيهم حبيبنا ( صلى الله عليه وسلم ) : “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ ” ، فهناك وهنالك في حرمي الله الآمنين تُسكب العبرات ، وتكون العظات, لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد .
وكان لنا على هامش هذه الرحلة علامات ، منها ذلك المد الثقافي والنضج المعرفي الذي تحلى به من رافقنا من شباب المراسم الملكية ممن تم اختيارهم بعناية بالغة ليكونوا واجهة مشرفة للمملكة وأهلها , وهم على مستوى المسئولية في خدمة دينهم وبلدهم , وخدمة الحرمين الشريفين، والتمثيل المشرف في المهمة التي انتدبوا لها .
وزاد من سعادتي ذلك المُرَافِق الذي رافقنا عند السلام على حبيبنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وصاحبيه ” وأخذ يصلي ويسلم على الحبيب ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة جامعة وكأني أسمعها وأسمع هذا التسليم لأول مرة , ثم كانت سعادتنا أكبر وأبلغ لِما تحلى به ذلك الشيخ الوقور من أدب جم في حضرة الحبيب ( صلى الله عليه وسلم ) وحضرة صاحبيه أبي بكر وعمر , ولم يتحدث عن حبيبنا ( صلى الله عليه وسلم ) أو عن صاحبيه إلا بلفظ “السيادة” فيقول : سيدنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسيدنا أبو بكر (رضي الله عنه) وسيدنا عمر (رضي الله عنه) ، على أن سيدنا عمر (رضي الله عنه) نفسه كان يقول عن سيدنا أبي بكر (رضي الله عنه) في الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري في صحيحه : “أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا” ، فأدركت أننا أمام عقول ناضجة متفتحة تفهم دينها صحيحًا بلا تشدد ولا غلو ولا إفراط أو تفريط ، وهو ما نسعى جميعًا إليه, ونعمل على تأصيله ، وذهبنا إلى المملكة للاتفاق عليه ، وهو وسطية الإسلام وسماحته في مواجهة الغلو والتطرف ، ومواجهة الإلحاد والانفلات والتسيب .
وكنا خلال الزيارة على أعتاب شهر رمضان المبارك ، وتبادلنا أطراف الحديث عن شهر رمضان وأهمية العمل والإنتاج ، فرمضان شهر القرآن ، رمضان شهر الجود والكرم ، رمضان شهر الصبر ، رمضان شهر الرحمة ، رمضان شهر البر والصلة ، رمضان شهر الدعاء والإجابة ، وهو كذلك في كل ما ذكر ، غير أن هناك جانبًا هامًّا من الجوانب قد يُفهم على غير وجهه الصحيح ، أو لا يكون فيه التطبيق على مستوى الفهم ، حيث يركن بعض الناس إلى الراحة والكسل ، أو التفرغ الكامل طوال الشهر للعبادة على حساب العمل ، أو التقصير في الواجب المهني أو الوظيفي ، أو إرجاء الأعمال إلى ما بعد رمضان ، فيكون التأجيل والتسويف والترحيل ، أو شغل الوقت المخصص للعمل وخدمة الناس بمزيد من الصلاة وقراءة القرآن في ساعات العمل الرسمية ، حتى لو كان ذلك على حساب قضاء حوائج الناس أو تعطيلها ، أو حمل بعض الناس على الحضور إلى المصلحة الواحدة اليوم تلو الآخر تلو الذي يليه .
ونؤكد أن الإسلام قد وازن بين حاجة الروح والجسد دون أن تطغى إحداهما على الأخرى ، حيث يقول الحق سبحانه وتعالى :” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ” .
فالعمل قد يكون فرض عين ، وقد يكون فرض كفاية ، وقد يكون مندوبًا أو مستحبًا أو مباحًا ، وهو محمود على كل حال طالما أنه في مجال التنمية والإنتاج ، لا الهدم والتخريب ، يقول نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) في الحث على العمل : ” من أمسى كالاًّ من عمل يده أمسى مغفورًا له ” ، ويقول ( صلى الله عليه وسلم ) : ” مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ دَاوُدَ – عَلَيْهِ السَّلاَمُ – كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ. ” ، ونبي الله داود (عليه السلام ) كما أخبر عنه نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصوم يومًا ويفطر يومًا ، ولم يمنعه صيامه من العمل ، بل العمل الشاق في صناعة الحديد ، حيث يقول الحق سبحانه: ” وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ ” .
وإذا كان من أخص صفات الصائم المراقبة لله عز وجل فإن ذلك يقتضي مراقبة الله عز وجل في الوفاء بحق العمل ، فالذي يراقب صلاتك وصيامك وإمساكك عن الطعام والشراب هو هو من يراقب وفاءك بحق العمل أو تفلتك منه وتقصيرك في حقه .
وإذا كان من أهم ما يجب أن يحرص عليه الصائم أكل الحلال واستجابة الدعاء ، فعليه أن يدرك أنه إذا أخذ الأجر ولم يؤد حق العمل فإنه إنما يأكل سحتا وحرامًا ، لأنه يكون قد أخذ أجرًا بلا عمل ، أو أخل بالعقد والعهد والشروط التي يتطلبها العمل ، سواء أكان ذلك عملاً حكوميًا أم خاصًا ، على أن حرمة المال العام أشد ، لأنه حق لأفراد الشعب جميعًا ، وهم سيختصمون من يفتأت على حقهم أمام الله عز وجل يوم القيامة .
وإذا كان رب العزة لا يقبل صدقة من غلول فإن أهل العلم بل إن أي عاقل يدرك أنه إذا أتعب نفسه بالجوع والعطش ثم أفطر على الحرام الخبيث فما انتفع بصلاة ولا صيام ولا دعاء ولا حج ، لأن نبينا ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ” كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ” .
وقد تجد من يقول لك : ها نحن مقبلون على رمضان فاجعل هذا الأمر أو ذاك إلى ما بعد العيد ، وبعضهم قد يصدمك بقوله : وهل هذا وقته ، إذا عرضت عليه أمرًا يتطلب جهدًا كبيرًا أو تركيز اً في العمل ، وكان الصيام الذي ينبغي أن يدفع إلى مزيد من النشاط والعمل صار يدفع البعض إلى الخلود إلى الراحة والكسل .
رمضان شهر العزيمة وشهر الإرادة ، وينبغي لتلك العزيمة القوية والإرادة الفولاذية التي تقهر الجوع والعطش ، بل تقهر سائر الشهوات والموبقات والخصال الذميمة أن تقهر البطالة والكسل ، كما ينبغي أن تقهر العادات السيئة ، وبخاصة لدى المدخنين أو المتعاطين أو المدمنين ، فهذه فرصتهم للإقلاع عن هذه العادات السيئة والأوبئة والسموم المدمرة القاتلة .