نســـاء مصريـــات (2)
أشرنا في حديثنا السابق إلى جانب من قصة هاجر (عليها السلام) , ونتناول في حديثنا هذا طرفًا آخر من حديث القرآن الكريم عن بعض النساء اللاتي وُلدن أو نشأن أو حيين على أرض مصر أو جئن إليها أو زرنها أو مررن بها , ومنهن امرأة فرعون التي امتدحها القرآن الكريم في سورة التحريم , فقال سبحانه: ” وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ” , فاستجاب الله دعاءها , ولم يأخذها بجريرة فرعون أو جرائمه , ذلك أن العدل الإلهي اقتضى ” أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى” , وأن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت , وأن الإنسان إذا ما صلح ما بينه وبين ربه لا يضره ضلال من ضل حتى لو كان أقرب الناس إليه أبا أو أخا أو ابنا , أو زوجا كما كان هنا في شأن امرأة فرعون , وهي التي جندها الله (عز وجل) لتحول بين زوجها وحاشيته وبين قتل موسى (عليه السلام) حين ألقى اليم الصندوق الذي وضع فيه موسى (عليه السلام) إلى قصر فرعون , فأرادوا أن يقتلوه , فقالت : ” قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا” .
وارتباطا بهذا الحديث نقف على ما كان من امرأتين كريمتين عاشتا على أرض مصر هما أم موسى (عليه السلام) وأخته , فعندما أخبر أحد الكهنة فرعون أن طفلا يولد من بني إسرائيل تكون نهاية ملكه على يديه شرع فرعون يقتل أبناءهم الذكور , وفي هذه الفترة العصيبة وضعت أم موسى (عليهما السلام) وليدها , وخشيت أن يأتي زبانية فرعون لقتله, وهنا جاءها الأمر الإلهي ” وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ” .
ولنا مع هذه الآية وقفات :
- أن الأصمعي سمع امرأة فصيحة بليغة , فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك , فقالت : وأي فصاحة وأي بلاغة إلى جانب فصاحة وبلاغة كتاب الله (عز وجل) , وقد جمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين , أما الأمران فهما : ” أَرْضِعِيهِ” , و”َأَلْقِيهِ ” , وأما النهيان فهما : “وَلَا تَخَافِي” , و”لَا تَحْزَنِي” , وأما الخبران والبشارتان معا فهما “إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ” .
- أن الإنسان إذا خاف على ولده وخاصة إذا كان الولد لا يزال طفلا لا يكاد بعقل ولا يعي اجتهد كل الاجتهاد في إبعاده من اليم , لكن الحق سبحانه وتعالى يوجه أم موسى إذا خافت على ولدها بأن تلقيه في اليم , ” إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ” .
وإذا العنايـة لاحظتك عيونها |
نـم فالمخــاوف كلهـــن أمـان |
- أن البشرى لم تكن بمجرد رده إليها فحسب , إنما تجاوزت ذلك إلى بشرى أخرى وهي جعله من المرسلين , فصنعت أم موسى الصندوق الخشبي , واستجابت في إيمان كبير لأمر ربها , ووضعت في الصندوق وليدها , وألقته في اليم , وقلبها البشري يكاد ينفطر , وهنا يأتي دور الأخت , “وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ” أي تتبعي مسيره في الماء , ” فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ” , فصارت ترقبه على الشاطئ , ولا يغني حذر من قدر , فقد ألقاه اليم إلى حيث كانت أمه تحذر وتخاف, ألقاه إلى قصر فرعون , وتذكر بعض الروايات أن أخته هذه كانت تعمل بقصر فرعون أو لها به صلة ما , وقد أبى الطفل أن يرضع من أي امرأة في القصر , فوقعوا في حيرة العناية به , فقالت أخته : ” هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ” , وطمس الله على أفئدة فرعون وحاشيته , فلم يسألوا أخت موسى عن سر ثقتها في أهل هذا البيت , وجاءت البشرى الأولى سريعة غير متوقعة لأم موسى ” فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ” , ثم تحققت بعد ذلك البشرى الثانية بجعله من المرسلين.
ونستطيع أن نؤكد أن دور المرأة تاريخيًا وفي مسيرة الإنسانية لم يكن أبدًا هامشيًا , إنما كان دورًا هامًا وفاعلاً , وفي قصة أم موسى وأخته بدا دورهما في الحفاظ على الأسرة وحمايتها مما يتهددها من تحديات واضحًا بارزًا , مما يؤكد قدرة المرأة على الإسهام في مواجهة المخاطر والتحديات , والحفاظ على بيتها وأسرتها وعرضها وأبنائها , وكذلك الإسهام في نهضة وطنها ورقيه وتقدمه .