وزير الأوقاف أ.د/ محمد مختار جمعة يكتب للأخبار: أبــــواب الفســـــــاد
لاشك أن التنمية تقوم على محاور متعددة منها زيادة العمل والإنتاج , ودعم وتشجيع الصادرات , وترشيد الاستهلاك , لكن هناك عاملا أراه يشكل نصف محور التنمية , وهو مكافحة الفساد , فلا شك أن الفساد بكل ألوانه إنما هو غول يلتهم أي تنمية , سواء أكان هذا الفساد نهبًا للمال العام وتسهيلا للاستيلاء أو السطو عليه بدون حق , أم كان تمكينًا لغير الأكفاء , وتقديمًا للولاء على الكفاءة , أم كان إهمالا وتسيّبًا وتضييعًا للمال العام وهدرًا لموارد الدولة , ولا سيما إذا كانت هذه الموارد محدودة , أم كان غضًا للطرف عن عدم تحصيل حقوقها ومستحقاتها .
فتقديم الولاء على الكفاءة باب واسع من أبواب الفساد , وقد حذرنا الإسلام منه, فقال نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” من استعمل رجلا على جماعة وفيهم من هو أرضى لله عز وجل منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين “, وعن يزيد بن أبي سفيان ( رضي الله عنه ) قال : قال لي أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) حين بعثني إلى الشام : يا يزيد إن لك قرابة عسيت أن نؤثرهم بالإمارة , ذلك أكثر ما أخاف عليك , فقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ” من ولي من أمر المسلمين شيئًا فأمّر عليهم أحدًا محاباة فعليه لعنة الله , لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلاً حتى يدخله جهنم ” , وقد أشار القرآن الكريم إلى ضرورة استعمال القوي الأمين , في قوله تعالى : ” إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ ” , وقوله تعالى على لسان يوسف (عليه السلام) في مخاطبته لعزيز مصر : ” اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ” , فالإدارة تتطلب وصفين أساسين هما : الكفاءة والأمانة , فالكفاءة بمعنى الإتقان والمهارة في تنفيذ المهام المنوطة والموكلة هي الشرط الرئيسي , لكنها إذا أٌسندت إلى غير الأمين فإنها قد تؤول إلى فساد ومحاباة ومحسوبية وانتهازية , أما الأمانة وحدها بلا كفاءة فإنها لا تجدي في تولي المهام القيادية , لأن تولية الأمين غير الكفء تكون كاتخاذ الصديق الأحمق الذي يريد أن ينفعك فيضرك , ومصر نجيبة سخية ولاّدة , مليئة بالكفاءات الأمينة , على أننا يجب أن نجهد أنفسنا في البحث عنها والتمكين لها .
فيجب على كل مسئول أن يبحث عن الأكفاء الأمناء دون أي محاباة أو مجاملة , وإلا كان غاشًّا فيما ولاه الله عليه واسترعاه فيه , حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” ما من عبدٍ يسترعيه الله عز وجل رعية يموت يوم يموت وهو غاشًّ لرعيته إلا حرّم الله عليه الجنة ” , ويقول (صلى الله عليه وسلم) : ” ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله عز وجل مغلولاً يوم القيامة يده إلى عنقه , فكّه بِرُّه أو أوبقه إثمه”, أي نجاه عدله أو أهلكه جوره وظلمه , وإبعاد الكفاءات أو إقصاؤهم تعنُّتًا من أشد ألوان الظلم وتضييع مصالح الوطن والبلاد والعباد , وإهدار للطاقات.
ومن أشد ألوان الفساد الرشوة والمحسوبية والمجاملة والمحاباة , فمن ولي من أمر الناس شيئًا لا يجوز له استغلال موقعه في تحقيق أي مكاسب غير مشروعة , فقد لعن الله عز وجل الراشي والمرتشي والرائش , وهو الذي يسير بينهما بالرشوة , أيا كان مسمى هذه الرشوة , هدية , إكرامية , أو غير ذلك من الأوصاف التي يتحايل بها على الحرام , حتى لو كان لمجرد المجاملة , فهو إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق .
وإن هذه المفاسد من أكثر ما يثير الأحقاد ويضعف انتماء الإنسان لوطنه حين يشعر فيه بالقهر وعدم الإنصاف , أما العدل فهو الحصن الحصين للدول ولبقائها واستقرارها , فقد كتب أحد الولاة إلى سيدنا عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) يشكو كثرة اللصوص في المدينة , فكتب إليه سيدنا عمر بن الخطاب أن حصنها بالعدل , وقالوا: إن الله عز وجل ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة , ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة .
ومن أكبر ألوان الفساد الإهمال الذي لا يقل خطورة عن كل ما تقدم , لأن الأثر المترتب على كل ما سبق هو إهدار الأموال أو الطاقات , وتضييع الفرص على المجتمع وأبنائه , فيستوي في ذلك أن يكون ناتجًا عن تولية غير الأكفاء أو عن فساد أو إهمال , وإذا كان الإهمال والتقصير مذمومين على كل حال وفي كل وقت , فإنهما يكونان أكثر ذمًا في مثل أحوالنا عندما تكون في حاجة لمسابقة الزمن من أجل البناء , وإصلاح ما فسد , واستدراك ما ضاع , كما أن الأمانة والمسئولية تكونان أشد على كل من يلي عملا عامًا أو أمرًا قياديًا أو تنفيذيًا , فلسنا في فسحة من الوقت , وليس لدينا منه ما نضيعه , فيكفي ما ضاع في السابق , إنما نحن في حاجة إلى عقول خلاقة مبتكرة ورجال أقوياء فطناء وطنيين مخلصين يعملون ليل نهار حتى نصل جميعًا ببلدنا ووطننا ومصرنا الغالية إلى المكانة التي تستحقها في مصاف الأمم الرائدة المتقدمة المتحضرة , ونحقق لأهلها ما يطمحون إليه من الرخاء والازدهار , ولا يستهين أحد منا بما تحت يده , وما يمكن أن يحققه من إنجاز أو محاربة للفساد أو الإهمال , فالقليل إلى القليل كثير , كما ينبغي على كل منا أن يبدأ بنفسه , ثم بمن يليه , ولا ينتظر أن يبدأ الآخرون كي يبدأ هو , بل علي كل واحد منا أن يستشعر وبقوة أن الوطن أمانة في عنقه هو , وأنه المسئول أمام الله (عز وجل) ثم أمام الناس عن العمل على رقي وطنه وتقدمه , وأن يقتدي بالوطنيين المخلصين لا بالمقصرين ولا بالمتكاسلين .