وداعًا هشام بركات
لقد عرفت الرجل عن قرب ، عرفته قيمة وقامة قضائية وقانونية ووطنية , وعرفته قبل كل ذلك إنسانًا بكل ما تحمله أو تعنيه هذه الكلمة من معان .
لقد كان الرجل حكيما لا يبحث عن الظهور الإعلامي ولا يسعى إليه , صامدًا كالجبل الأشم الشامخ الذي لا تهزه الريح ولا حتى الأعاصير , يؤمن إيمانًا قويًا لا يخالجه ولا يخالطه ولا يشوبه شك في أن ما أصابه لم يكن ليخطئه , وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه , يؤمن بأن العدالة معصوبة العينين , يؤمن بالله ، ثم بالوطن وبحقه .
واجه المجرمين والإرهابيين والمتطرفين بشجاعة وثبات وصمود يغبط عليه , لقى ربه بما قدم , قانعًا راضيًا بما قدم , نحسبه كذلك , نحسبه شهيدًا في سبيل دينه من أن يشوهه المجرمون , وفي سبيل وطنه أن يمزق أو يتحطفه الخونة والعملاء , لقى ربه صائمًا , جمع الله له القلوب التي حزنت لفراقه في مشهد قل أن يجمع المصريون على مثله.
رحل بركات ممسكًا بحبل الدين وحبل الوطن وحبل العدالة ، غير مفرط ولا مضيع للأمانة , وكان على قدر المسئولية .
عرفته رجلاً عظيمًا , وعرفته إنسانًا وأخًا كريمًا , محبًا للعلماء , شديد الاحترام والتقدير لهم , واعيًا فطنًا , يفرق بين الغث و الثمين , يدرك أن الزيد يذهب جفاء , وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض , لم يكن خبًا أو مخادعًا , لكنه في الوقت نفسه لم يكن أبدًا ليخدعه الخب .
لم تؤت مصر من قبله , وقف وسهر مرابطًا على الثغر الذي ولاه الله إياه , بث في زملائه ومعاونيه وتلاميذه روح الوطنية والصمود , كان يدفع بهم إلى الأمام محبًا لهم ، حانيًا عليهم , التقيت به وبهم أكثر من مرة , فكنت أجد أنه رب أسرة قضائية عظيمة , يغمرها الحب والألفة والتفاني في العمل , بث في معاونيه روح التفاني والسهر والدأب , وكان بحق رمانة ميزان في ميدانه.
على أننا نؤمن بأن مصر نجيبة ولادة , يستعصى على الزمن الصعب أن يكسر إرادتها أو إرادة أبنائها , وعلى الخونة أن يخترقوا صفوف أبنائها الأوفياء , فإذا لقى هشام بركات ربه صابرًا صامدًا محتسبًا , فإن ألف هشام بركات وألف ألف معهم سيكونون على درب الوطنية , وعلى نفس خط الفداء والتضحية والعطاء الذي سلكه , وإنني لعلى يقين من النيابة العامة والقضاء المصري الشامخ والشعب المصري العظيم سيفرز آلاف آلاف الرجال الذين بهم يسر الصديق ويساء العدا.
وإنني لعلى يقين بأن مصر الغد غير مصر الأمس , وأن مصر بعد استشهاد هشام بركات ستكون شيئًا آخر , شيئًا جديدًا , شعبًا جديدًا , أكثر رفضًا للإرهاب , أفضل شجاعة وجرأة وجسارة وحسمًا في مواجهته , فقد دقت ساعة الصفر , وآن أوان الحسم , ولا مجال للمترددين , أو المرتعشين , أو المتلونين , أو البين بين , أو ممسكي العصا من المنتصف , أو المعولين على تقلب الزمن وتصاريف الدهر وسرعة تقلب الأحوال , ممن يأكلون على كل الموائد , بلا حياء لا من الله ولا من الناس ولا من النفس , في ذل وقماءة وصغار , ودناء نفس , ونفعية مقيتة، أو تبعية ذليلة , أو خيانة وطنية وعمالة لأعداء الأمة , مما لا يسمن ولا يغني من جوع لا في الدنيا ولا في الآخرة, لأن هؤلاء وإن خدعوا أنفسهم أو خدعوا بعض الناس بعض الوقت , فإنهم لا يمكن أن يخدعوا كل الناس كل الوقت.
إننا لفي حاجة إلى مزيد من اليقظة , ومزيد من الفطنة , ومزيد من الحسم , ومزيد من العمل , كل في مجاله وميدانه ، لله , وللدين , وللوطن .
رحم الله هشام بركات رحمة واسعة , وأسكنه فسيح جناته , وحفظ مصر وأهلها من كل سوء ومكروه .