:أهم الأخبارمقالات

نقد الفكر الإنساني

 

أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

لا شك أننا نقف في عالمنا المعاصر بثقافاته المتعددة بين مدارس فكرية وعلمية وفلسفية متعددة , بعضها يقدس القديم لمجرد قدمه فحسب , سواء أكان داخلا في باب المقدس , أم غير داخل فيه , حتى في الفكر والأدب والإبداع , فهو يؤثر كل قديم على كل حديث , على شاكلة ما رواه ابن قتيبة وغيره من أن أحد الشعراء أنشد الأصمعي أبياتًا , فقال له الأصمعي : إن هذا لهو الديباج الخسرواني أي الشعر الجيد الذي يمتدح ويشاد به , ثم استرسل الأصمعي : لمن تنشدني , فأجاب الشاعر : بأنهما من شعره أنشدهما لليلته , وهنا غيّر الأصمعي رأيه على الفور , قائلاً : إن أثر التكلف عليهما لبيّن واضح , وماذاك إلا لعصيبته للقديم دون سواه بغض النظر عن الجودة أو عدمها.

وهو ما تصدى له كثير من علمائنا : كُتَّابًا ومفكرين وفلاسفة بالنقد والتفنيد , مؤكدين أن الله (عز وجل) لم يؤثر بالعلم , ولا بالفقه , ولا بالاجتهاد , ولا بالشعر , ولا بالإبداع , قوما دون قوم أو زمانًا دون زمان , أو مكانا دون مكانٍ , ولذا فإنهم لا يقدمون القديم لمجرد قدمه , ولا يبخسون الحديث أو المعاصر حقه لمجرد حداثته أو معاصرته , إنما الميزان عندهم منطقي موضوعي , وهو ألا ننظر إلى من قال وإنما إلى ما قال , فالحكم على العمل لا على صاحبه , وعلى النص لا على القائل , وعلى الإبداع لا على المبدع , ولكل جواد كبوة , ولكل عالم زلة , ولكل مبدع سقطة أو هفوة , والكمال لله وحده , والعصمة لأنبيائه ورسله .

وفي المقابل ثمة فريق آخر أسرف في حداثته وإطلاق العنان للعقل البشري حتى ذهب إلى رفع القداسة عن المقدس , وإنزال النصوص المقدسة منزلة النصوص البشرية القابلة للنقد والتفنيد.

ويذهب البعض وبخاصة في الجماعات المتطرفة إلى إنزال شيوخهم وأمرائهم ومرشديهم منزلة القرآن الكريم أو أشد منزلة جهلاً وحمقًا , فأكثر شباب الجماعات المتطرفة كلام مرشده فوق كل اعتبار ، وهو المقدس الذي لا يرد ، ولا مجال للتفكير أو إعمال العقل فيه , على أن أحدهم قد يجادلك في فهمك للنص القرآني إن تناقض مع شيء من كلام شيخه أو  مما دُسَّ له عبر كتبهم ومحاضراتهم وتفسيراتهم وتأويلاتهم ، ولا يسمح لك أن تناقضه أو تناقشه في كلام شيخه المقدس لديه ، فقضية تأليه البشر أو تقديسهم أو رفعهم إلى درجة المهديين المنتظرين أمر في غاية الخطورة على التفكير المنطقي السليم.

على أننا نفرق تفريقًا واضحًا لا لبس فيه بين إنزال الناس منازلهم وإكرام العلماء وبين تقديس البشر أو محاولة تقديسهم أو إضفاء هالة من التقديس عليهم ، تصور نقد كلامهم على أنه نقد للإسلام وطعن في فهم صحيح الكتاب والسنة ، مع أن كل البشر بعد المعصوم (صلى الله عليه وسلم) يؤخذ منهم ويرد عليهم في ضوء أدب الحوار ومراعاة أصوله، ولذا نؤكد دائما أن مؤسساتنا الدينية ليست مؤسسات كهنوتية ولا ينبغي أن تكون أو تقترب من ذلك , كما أنها ليست محاكم تفتيش , فمهمتها البيان لا الحساب .

وأكاد أجزم أن ضعف التكوين العقلي والفكري والثقافي لدى بعض شبابنا يعد طامة كبرى , وأن ضيق الأفق الثقافي ومحدوديته وربما انغلاقه وانسداده قد ينحرف بالمتحدث أو الكاتب إلى معالجة خاطئة لبعض القضايا , أو ينجرف به إلى الصدام مع المتلقي مشاهدًا كان أو سامعًا أو قارئًا , كما أنه قد ينجرف بالمتلقي إلى التسليم المطلق والاستلام الأعمى لمن يأخذ بزمام عقله من شيوخ الجماعات الضالة أو الإرهابية أو المنحرفة.

غير أن الذي ينبغي التأكيد عليه هو أننا في حاجة ماسة إلى مناهج علمية وتعليمية وتربوية تخرج بنا من مناط التلقي والتلقين والتقليد إلى مناط التفكير والمشاركة والإبداع والنقد , وأن تصبح فكرة تقبل النقد والقدرة على سماعه واستيعابه والتعامل معه دون عصبية أو انفعال مسلكًا ومنهجًا حياتيًّا , بحيث نفيد جميعًا من النقد البناء .

أما أن يقتحم مجال التوجيه أو النقد من لا يمتلك لا الخبرة ولا الحاسة ولا أدوات الصناعة والفن أو مؤهلات التوجيه والنقد ، فتلك الطاقة الكبرى التي تؤخر ولا تقدم ، وتفسد ولا تصلح .

كما يجب التحلي بالإخلاص والتجرد والبعد عن الأهواء وتصفية الحسابات ، فإن الوقوع في آفات الهوى والميل وعدم الإنصاف طامة كبرى يجب الترفع عنها ، وذلك أن بعض النفوس المريضة لا تعرف سوى الهدم طريقا ، على حد ما قرره الإمام علي بن عبد العزيز الجرجاني في مقدمة كتابه ” الوساطة بين المتنبى وخصومه ” حيث ذكر أن  أهل النقص فريقان ، فريق يعمل على جبر نقيصته وستر عورته ، وهذا أمر حسن لأنه قد شغل بأمر نفسه ويعمل على إصلاح حاله وشأنه ، أما الفريق الآخر من  أهل النقص  فقد قعد به عن الكمال عجزه أو اختياره ، أي ضعفه أو كسله ، فلم يجد شيئا أجبر لنقصه وأستر لعورته من انتقاص الأماجد وحسد الأفاضل ، ظنًا أن ذلك قد يجرهم إلى مثل نقيصته أو ينزل بهم إلى مستوى درجته .

ما أحوجنا مرة أخرى إلى التوازن في حياتنا بين دراسة العلوم التطبيقية والبحثية ودراسة علوم النفس والاجتماع والفلسفة والآداب والتاريخ والحضارة والعمران .

ما أحوجنا إلى التخلص من تقديس الذات إلى نقدها , من الذاتية إلى الموضوعية , من تضخم الأنا إلى الاعتراف بالآخر وتقديره واستيعابه والتعامل والتعاون معه , ما أحوجنا إلى أن نسمع لا أن نحرص فقط على أن نُسْمَع أو نُسمِعَ , فإذا كان للإنسان أذنان ولسان واحد , فينبغي أن يكون سماعه أكثر من كلامه , يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ” (رواه البخاري).

وأخيرًا نؤكد بأنه لا يصح إلا الصحيح ولا بقاء إلا للأصلح , حيث يقول الحق سبحانه : “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ” (الرعد :17) .

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى