فرية يجب أن تدحض
لعل من أهم الشبهات وأكثرها فرية على الإسلام ادعاء أنه إنما انتشر بحد السيف , غير أن من يمعن النظر في فلسفة الحرب في الإسلام يجد أنها محصورة في دفع الاعتداء ورد البغي والعدوان , حيث يقول الحق سبحانه وتعالى : “أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ” ، ويقول سبحانه : ” وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ” .
بل إن الإسلام قد دعانا إلى الإقساط إلى جميع المسالمين وبرِّهم وإجارتهم إن استجاروا بنا ، فقال سبحانه:”لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” ، وقال (عز وجل) : “وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ”.
وفي هذه النصوص ما يؤكـد أن الإسـلام لا يعرف الاعتـداء أو الظلم ، إنما شرع القتال أصلاً لرد العدوان والاعتداء ، فأذن الحق سبحانه للذين يقاتلـون ظلمًا بأن يهبُّوا للدفاع عن أنفسهم ، على ألا يعتدوا , وألا يغدروا ، وألا يسرفوا في الدماء ، أو يتوسعوا فيما أذن لهم به من دفع العدوان.
وحتى في الحرب التي هي ردّ للاعتداء نهى الإسلام نهيًا صريحًا عن تخريب العامر ، وهدم البنيان ، وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حين يجهزون جيوشهم يوصون قادتها ألا يقطعوا شجرًا ، وألا يحرقوا زرعًا ، أو يخربوا عامرًا ، أو يهدموا بنيانًا ، إلا إذا تحصن العدو به واضطرهم إلى ذلك ولم يجدوا عنه بديلا ، وألا يتعرضوا للزراع في مزارعهم ، ولا الرهبان في صوامعهم ، وألا يقتلوا امرأة ، ولا طفلا ، ولا شيخًا فانيًا ما داموا لم يشتركوا في القتال.
هذا ، وقد ظل النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاما يتحملون أذى المشركين دون أن يؤذن لهم بالقتال ولو دفاعا عن أنفسهم لأسباب من أهمها وفي مقدمتها : استنفاد سائر الوسائل السلمية في الدعوة المبنية على الحكمة والموعظة الحسنة ، وتربية المؤمنين على أقصى درجات ضبط النفس وتحمل الأذى في سبيل الله , وإقامة الحجة على الخصم ، ومنها عدم التكافؤ في المواجهة آنذاك إذ كانت المواجهة بكل حسابات البشر محسومة لصالح المشركين ، مما ينذر بخسائر فادحة في صفوف المستضعفين من المسلمين حال التعجل في المواجهة ، والإسلام حريص على حفظ الدماء كل الدماء , فما بالك بدماء أبنائه المؤمنين به المدافعين عنه المستعدين للتضحية بأغلى ما يملكون وكل ما يملكون في سبيله ، ومنها لفت أنظارنا إلى أهمية الإعداد الجيد أفرادًا وتسليحًا وتخطيطًا قبل الدخول في أي مواجهة مالم تفرض علينا فرضًا ، ولم يكن ثمة بد من الخروج لمواجهة العدو , فلما هاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه الكرام إلى المدينة ، وصار لهم بها دولة ووطن يدافعون عنهما , كان الإذن بالقتال الدفاعي في قوله تعالى : ” أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ” .
مع ضرورة الوقوف عند الآتي:
- في قوله تعالى : ” أُذِنَ ” عبَّر في الإذن بالبناء للمجهول ولم يقل سبحانه : أذن الله ، ليكون العمل بالإذن على قدر الحاجة والضـرورة ، وألا يستخدم الإذن على إطـلاقـه , فيؤدي ذلك إلى الإسراف في القتال والدماء .
- في قـوله تعالى : ” لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ” لم يقل سبحانه : أذن للمـؤمنين , أو للمسلمين , أو للمضطهدين , أو من أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، فلم يكن كل ذلك وحده مسوغًا لاستخدام هذا الإذن , وإنما هي علة واحدة أن يُقاتَلوا ، وأن تكون المبادرة والمبادأة من عدوهم بالقتال.
- ولم يكتف النص القرآني في قضية الإذن بأن يكون العدو هو البادئ بالقتال ، بل جعل قتال المسلمين لأعدائهم لأجل ردِّ بغيهم وظلمهم وعدوانهم عنهم أو عليهم ، فجعل العلة الثانية والاشتراط الثاني للإذن ظلم عدوهم لهم أو اعتداءه أو تآمره عليهم .
وللحديث بقية