:أهم الأخبارمقالات

الوطني والسياسي في الخطاب الدعوي

أ.د/ محمد مختار جمعة وزير الأوقاف
أ.د/ محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

       بداية نوضح أن السياسة هي القدرة على إدارة الأمور بحنكة وفطنة واقتدار وكفاءة وكفاية , فالكلمة مشتقة من ساس الفرس إذا استطاع ترويضه وكبح جماحه والسيطرة عليه في سهولة ويسر , وهي أمر لا بد منه ولا محيص عنه في إقامة الدول , فالدول تقوم على ثلاثة أركان رئيسة , ولا يمكن أن تقوم أي دولة على اثنين منها دون الثالث , وهي الأرض ، والشعب ، والحكومة (بما يشمل السلطة والنظام) , فبدون أرض لا يمكن أن تنشأ دولة أو تقوم في الهواء الطلق أو الفضاء الخارجي , وعلى أقل تقدير إلى زماننا هذا , وإن جاز عقلاً أن تنشأ حياة على كواكب أخرى في مستقبل الأيام , وبدون شعب لا يمكن أن تقوم دولة أو يخط لها حدود , كما أن المجتمعات التي لا يجمعها نظام حاكم لا يمكن أن تسمى دولا لا عرفًا ولا قانونًا , إذ لا يمكن الاعتراف في المحافل الدولية بشراذم متفرقة لا يجمعها عقد ولا يحكمها نظام , وقديمًا قال الشاعر العربي :

لا يَصـلُحُ الناسُ فَوضـــــى لا سَراةَ لَهُم

وَلا سَــراةَ لهم إِذا جُهّالُهُـــــــم ســــادوا

       فسياسة الأمور وسياسة الدول أمر لا مفر منه ولا مهرب , ويجب التعامل معه , والإسهام في بنائه بناء صحيحًا قويًا راسخًا , وهو ما يجعلنا نؤكد دائمًا على أهمية المشاركة الإيجابية في جميع الاستحقاقات الوطنية والدستورية , بدافع وطني , مع التأكيد على عدم استخدام المساجد أو دور العبادة لصالح حزب أو فصيل أو طائفة أو تيار أو مرشح بعينه أو توظيفها بأي شكل من الأشكال لصالحه , وهذا هو فصل الدعوي عن السياسي.

        وبهذا يمكن أن نحل جزءًا من إشكالية العلاقة بين الدعوي والسياسي والحزبي , ونؤكد أن الناس في ذلك ثلاثة أقسام رئيسة , الأول : خلط بين الدعوي والحزبي خلطًا أضر بالدعوة والسياسة معًا , إذ حاولت جماعات ما يعرف بالإسلام السياسي استغلال دور العبادة والعاطفة الدينية الفطرية لتحقيق مصالح حزبية أو شخصية , أو لحساب جماعة بعينها , كما ظهر ما يمكن أن يطلق عليه التدين السياسي , وهو خداع الناس باسم الدين, وادعاء حمل لوائه ورفع شعاراته والمزايدة بها لصالح بعض الجماعات أو الأحزاب الدينية , لتحقيق مكاسب خاصة من خلال المخادعة باسم الدين , وهذا ما حذرنا وسنظل نحذر منه ومن أدعيائه والمتكسبين به أو المتربحين منه.

       أما القسم الثاني فلا يفرق بين ما هو استخدام للدين أو متاجرة به لمصالح خاصة وبين الواجب الوطني المحتم على العلماء والمثقفين والمفكرين ، وبخاصة في لحظات تعرض كيان الدولة للخطر ، فهو دفاع عن بناء الدولة وكيانها لا عن أشخاص بأعينهم ولا عن حزب بعينه أو جماعة بعينها ، فعندما نتحدث عن ضرورة الاصطفاف الوطني ، أو التضامن العربي ، أو التصدي لأصحاب الدعوات الهدامة ودعاة الفوضى والتخريب ، وضرورة الحفاظ على المؤسسات الوطنية ، وعلى أمن الوطن واستقراره ، ونحذر من التهديدات التي تحيط بنا ، أو مطامع الأعداء في ثروات منطقتنا ، ورغبتهم في الاستيلاء على خيراتها ومقدراتها ونفطها ومفاصلها الاستراتيجية وتوجيه قرارها السياسي أو الوطني ، فإن هذا يأتي في صميم واجبنا الدعوي والوطني ، ولا يمكن أن يقال : إنه خلط للدين بالسياسة ، لأنه لم يوجه لصالح شخص أو حزب ، أو فصيل أو تيار ، فمنطلقنا في كل هذه الأمور شرعي ووطني لا سياسي ولا حزبي .

       أما القسم الثالث أو النمط الذي نحاول أن نؤصله فهو النأي بالمساجد وملحقاتها وكل ما يتصل بدور العبادة عن خدمة شخص أو حزب أو فصيل أو جماعة أو تيار ، ونؤكد أننا نجحنا في ذلك إلى حد كبير في جميع الاستحقاقات الوطنية ابتداء من الاستفتاء على الدستور ومرورًا بالانتخابات الرئاسية ، ووصولا إلى الانتخابات البرلمانية ، وهو ما نؤكد على ضرورة استمراره في انتخابات المحليات وأي استحقاقات وطنية أو حتى نقابية في المستقبل ، وسنظل نحذر الناس من الانخداع بمجرد المظهر أو التدين السياسي أو الشكلي ، مع التأكيد على أهمية المخبر والقيم الأخلاقية والإنسانية الكريمة .

       أما عندما يتعلق الأمر بأمن الوطن واستقراره فعلى كل وطني مخلص أن يكون في المقدمة ، وألا يلتفت إلى شئ أو يلوي على شىء إلا مصلحة هذا الوطن ، فالأشخاص زائلون والوطن باق بإذن الله تعالى.

     كما يجب علينا جميعًا أن نتصدى لأصحاب الدعوات الهدامة ودعاة الفوضى كلٌ في مجاله وميدانه ، حتى نخلص وطننا من العملاء والمأجورين .

      ونوصي بأن يكون تدريس التربية الوطنية جزءًا راسخًا في جميع مراحل التعليم ، وألا تكون مادة هامشية أو ثانوية ، إذ يمكن تضمينها بحنكة واقتدار في إطار تدريس  مادة التاريخ الذي يعد منهجًا رئيسًا في بناء الشخصية الوطنية ، إذ ينبغي أن نستقي من دروس الماضي ما نبني به الحاضر وننطلق به في المستقبل ، كما ينبغي على جميع المؤسسات التعليمية والدينية والتربوية والثقافية والفكرية والإعلامية والشبابية أن تجعل من التربية الوطنية وكل ما يعمق ويرسخ الانتماء الوطني جزءًا رئيسًا في مناهجها وأنشطتها .

       ذلك مع التأكيد على أهمية التوازن في الخطاب الدعوي وعدم الخروج به عن مساره الديني ، وشموليته لبناء الإنسان بناءً صحيحًا عقديا وفكريا وتعبديًا و أخلاقيًا وسلوكيًا وتربويًا ، مع التركيز على أهمية العمل والإنتاج، والبعد عن التقاعس والكسل ، وبيان أهمية التكافل والتراحم وحسن المعاملة , وتصويب مسار العلاقات الإنسانية ، وإبراز القيم الأخلاقية من الرحمة ، والعدل ، وكرم الطباع ، وكل ما يحقق للناس السعادة في دينهم ودنياهم .

المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى