السلطة والثروة
تتخذ العلاقة بين السلطة والثروة أشكالا عديدة يعبر عن بعضها بالتزاوج ، وعن بعضها بالصراع ، وعن بعضها بالتعايش ، وعن بعضها بالتفاهم ، وعن بعضها بالتكامل ، وأشد هذه الأشكال حساسية هو ما يعبر عنه بالتزاوج بين الثروة والسلطة ، وهو ما يعني أن أهل الثروة هم أصل السلطة ، أو أن أهل الثروة يتخذون من ثرواتهم مطية للوصول إلى السلطة ثم العمل على توظيف السلطة لمزيد من الثروة ، دون أن يلتفت هؤلاء ولا أولئك إلى أن هناك أناسا مطحونين لا يجدون ما يسد جوعهم أو يستر عورتهم ، متناسين أن تجاهل هؤلاء ينذر بمخاطر لا حد لها عندما تضيق الدنيا وتسودُّ في وجوه هؤلاء المطحونين ، يقول الشاعر العراقي محمد مهدي الجوهري المعروف بمتنبي القرن العشرين :
وما أنا بالهيَّــــابِ ثــــورةَ طامــــــعٍ |
ولكنْ جِمــاعُ الأمرِ ثـــــــــورةُ ناقـــــم |
فما الجوعُ بالأمرِ اليسيرِ احتمالُـهُ |
ولا الظُلْمُ بالمرعى الهنيءِ لِطاعِــــــم |
نَذيرَكَ مِن شعب أُطيـلَ امتهانُــــه |
وإنْ باتَ في شكلِ الضَّعيفِ المسالــم |
ألا إنَّ شعبــــاً لا يكــــونُ رفاهُــــهُ |
مُشاعـــــاً علــــى أفـــــرادهِ غيرُ دائـــــم |
ومع أن الإسلام لم ينكر على أهل الفضل فضلهم ولا على أهل الثراء ثراءهم ماداموا قد اكتسبوه من طرق حلال ، بل أكد أن اليد العليا –المتصدقة – خير من اليد السفلى – الآخذة ، وحث على العمل والإنتاج ، وحذر من الزهد الكاذب ، فقد سأل أحد الناس الإمام أحمد بن حنبل : أيكون الرجل زاهدًا وعنده ألف دينار ، فقال الإمام أحمد : نعم إذا كان لا يفرح إذا زادت ولا يحزن إذا نقصت ، فالدنيا في يده وليست في قلبه ، وقال أحدهم : ليس الزاهد من لا مال عنده ، إنما الزاهد من لم تشغل الدنيا قلبه ولو ملك مثل ما ملك قارون .
بل إن الإسلام قد حافظ على أموال الأغنياء وحماها بسلسلة من التشريعات ، فشرع حد السرقة لأخذ المال خفية ، وحد الحرابة لمن يأخذه عنوة ، وشرع الحجر للحفاظ على مال السفيه ومن لا يحسن التصرف ، ونهى عن الاعتداء على أموال الناس وأكلها بالباطل ، فقال سبحانه : ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً “.
وفي مقابل هذه الحماية لأموالهم افترض عليهم زكاة تُؤخذ من غنيهم فترد في فقيرهم ، ودعاهم إلى البر والصدقة ، والقرض الحسن ، وإنظار المعسر أو إبرائه ، وإلى الإيثار والجود والكرم ، وحذَّر من عاقبة الشح والبخل ، فقال الحق سبحانه وتعالى : “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ” ، ويقول سبحانه : ” هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ” .
إن المال الحرام له صور متعددة من أكثرها سوءًا وخطورة ما نسميه المال القاتل والمال القذر ، هذا المال الذي يستخدم سواء من قبل بعض الأفراد أو الجماعات أو الدول في تمويل العمليات والجماعات الإرهابية ، فبه تسفك دماء الآدميين وتغتال أحلامهم ، وبه تدمر المنشآت والممتلكات وتخرب ، به تحرق الجامعات ، وبه تقطع الطرق ، وبه تشترى النفوس العميلة والخائنة والضعيفة ، وبه تجلب المخدرات، وبه تدمر العقول ، وبه تشترى أصوات الضعفاء في الانتخابات ، وبه تباع الذمم ، وبه يزوّر التاريخ، وبه تزيف الحقائق ، وبه يقدم الخامل ، وبه يؤخر المقدم ويقدم المؤخر .
لقد لعب سلاح المال وظل يلعب وسيظل يلعب دورا مؤثرا في شراء أصحاب النفوس الضعيفة ممن لا دين لهم ولا خلق ، ونؤكد أن هؤلاء المارقين الذين يبيعون ذممهم وأنفسهم للشيطان بحفنة من هذا المال القذر شديد القذارة يمكن أن يقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ويمكن أن يعيثوا في الأرض تخريبًا وفسادًا ، ويمكن يكذبوا ، وأن يشهروا بالبريء ، وأن يشهدوا زورًا ، وأن يهدموا البنيان الشامخ ، بلا وازع أو ناه من دين أو ضمير إنساني حي .
على أنني أسوي في وصف المال القذر بين معطيه الذي يوجهه للفساد والإفساد ، والقتل والتدمير وسفك الدماء ، وشراء الذمم ، وقلب الحقائق ، وبين من يأخذه تحت أي مسمى كان ، حتى لو كان مسمى الحاجة .
أما المال الحلال الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه وسلم) : ” نعم المال الصالح للرجل الصالح ” (المستدرك على الصحيحين) ، فهو المال الذي تبنى به الأوطان ، وتعمر به الأكوان ، وتقضى حوائج المحتاجين.