السرقات العلمية وأثرها في تخلف الدول
إذًا لكل فعل ردّ فعل مساوٍ له في النسبة ومعاكس له في الاتجاه , فإن تشجيع البحث العلمي والإبداع والابتكار والانطلاق الجاد نحو المستقبل يقتضي وبسرعة وقوة وحسم اتخاذ الإجراءات الكفيلة بمواجهة السرقات العلمية وما في حكمها , وبخاصة في مجال الرسائل الأكاديمية والبحوث العلمية , بحيث يكون هناك عقاب رادع لكل لص أو سارق لنتاج غيره الفكري , واعتبار ذلك أحد الجرائم المخلة بالشرف التي تحول بين صاحبها وتولي أي عمل قيادي يحتاج إلى الأمانة والنزاهة والتحلي بالشرف ومكارم الأخلاق .
على أن التدرب على الأمانة العلمية يجب أن يبدأ في مرحلة مبكرة تنطلق مع السنوات الأولى من التعليم الأساسي مصاحبة له حتى نهايته , ممتدة لجميع المراحل التعليمية .
وإذا نظرنا إلى واقعنا وأدركنا أن بعض الجهات التي تمنح دراسات مكملة كالتأهيل التربوي وبعض الدراسات التكميلية مثلاً , إضافة إلى معظم الشهادات الفنية والمتوسطة ربما تتسامح في نظم الامتحانات بما لا يتناسب وطبيعة التأهيل المطلوب فإن ذلك يدعونا لمزيد من المراجعة لنظم التقويم والمراقبة .
وإذا اعترفنا بأن بعض خريجي الدبلومات الفنية قد لا يجيدون القراءة والكتابة إجادة تتناسب والسنوات التي درسوها أدركنا أننا في حاجة إلى تغيير مسارنا الثقافي فيما يتصل بنظم التقويم والامتحانات , مؤكدين أن ضبط المنظومة العلمية والتعليمية والبحثية وبخاصة فيما يتصل بالامتحانات ووسائل التقويم إنما هو أمانة , وأن التجاوز فيها خيانة للأمانة , وإعطاء ممن لا يملك لمن لا يستحق , مما يسهم في تخريج أشخاص غير مؤهلين , حاملي شهادات لا تعبر عن واقعهم التعليمي , ولا تؤهلهم لسوق العمل , وتفقد الجهات المانحة لهذه الشهادات قيمتها ومكانتها وتصنيفها داخليًا وخارجيًا , بل تفقد المتعلم نفسه الإحساس بقيمة الشهادة التي حصل عليها , وبقيمته الذاتية أيضًا , مع عدم قدرته على التعايش مع الواقع العملي .
وإذا كان الغش مذمومًا على كل حال , حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم) : ” مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا”, وفي رواية : ” مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا” بحذف المفعول للتأكيد على حرمة كل ألوان الغش , فإن الغش في المجال العلمي والفكري أشد جرمًا وأكثر تحريمًا وإخلالا بالمروءة والشرف .
على أن هناك لونًا خطيرًا من ألوان الغش قد لا يلتفت إليه بعض الناس وهو ما يمكن أن نطلق عليه التسول البحثي , بأن يطلب أحد الناس من بعض زملائه أو أصدقائه أو حتى تلاميذه كتابة اسمه معهم على عمل لم يشترك فيه ولم يقم فيه بجهد , مما يجعلني أطالب بضرورة مناقشة الباحث في أبحاثه المقدمة مناقشة شفوية حتى نتأكد من استيعابه لها وقدرته على فهمها والتعامل معها .
لذا يجب على كل الجهات ذات الصلة بالمجال الفكري والعلمي وضع النظم التي تحول دون السرقة التعليمية , أو تمكين غير المؤهلين من الحصول على ما لا يستحقون , كما يجب إنفاذ القانون بحسم على كل من تسول له نفسه الإخلال بمنظومة القيم التربوية أو الجامعية , وأن يكون هناك تقويم مستمر للمعلمين وغيرهم , على أن يكون تقويمًا جادًّا غير شكلي بحيث يشعر المجد بثمرة اجتهاده , أما غير المجد فإما أن يعمل على تنمية معارفه وتحسين مستواه ورفع كفاءته وإما أن يوضع في العمل الذي يناسب قدراته , على أن يكون ذلك كله بمنتهى الحياد والإنصاف والشفافية دون مجاملة أو إجحاف .
وإذا كنا نؤمن بقيمة العلم وأنه الطريق الوحيد للعبور بنا إلى بر الأمان فإن هذا الطريق ينبغي أن يكون جادًّا , وأن نعطيه حقه من الجد والاجتهاد , والسهر والدأب والتعب , وأن نحتضن النوابغ والأكفاء والمجتهدين ونوفر لهم المناخ المناسب , ونجعل منهم القدوة والمثل , وأن تنشئ كل مؤسسة تعليمية أو بحثية وحدة أو إدارة لمواجهة السرقات العلمية , حتى ننطلق بقوة نحو عالم العلم والمعرفة , لننهض بوطننا وأمتنا في عالم صار قوامه الرئيس التقدم العلمي والتكنولوجي وغزو الفضاء , حتى صارت حروبه في جانب كبير منها حروبًا فكرية ومعرفية وتكنولوجية لا يمكن الانتصار فيها إلا لمن يملك أدواتها امتلاكًا قويًا وواعيًا .
مؤكدين أن الإسلام عندما أعلى من قيمة العلم وشأنه , فقال سبحانه : ” قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ” , وقال نبينا (صلى الله عليه وسلم) : “إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ” , وقال (صلى الله عليه وسلم) : ” مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ” , فإن ذلك يشمل كل علم سواء أكان علمًا شرعيًا أم علمًا تطبيقيًا , فعندما قال (صلى الله عليه وسلم) : ” مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا” جاء لفظ “علمًا” نكرة ليفيد العموم والشمول , على أن المقصود هنا هو ناتج عملية التعلم , والعالم الحقيقي , وطالب العلم المُجد المجتهد , لا من يحصلون على الشهادات المزيفة المضروبة أو الناشئة عن غش وتدليس وفقد الأمانة والمروءة والشرف.