الخطاب الديني وتصحيح المسار
الإنسان متدين بطبعه وفطرته , ينزع إلى قوة غيبية أو روحية يرى فيها خلاصه , ويستمد منها جزءًا كبيرًا من قيمة ومبادئه , يدين لها بولاء ما , ولا يمكن للإنسان أن ينزع إلى الخواء الروحي لفترة طويلة مهما كانت درجة إلحاده , وإلا حاصره الاكتئاب والعقد النفسية وإن تمسح بمسوح السعادة .
فالتدين أيا كان اتجاهه فطرة , والتدين الصحيح هو الفطرة التي فطر الله الناس عليها , ” فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ” (الروم : 30) , وفي الحديث القدسي : ” إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ” أي أبعدتهم عنه (رواه مسلم).
وأي انحراف عن مستوى الدين الصحيح هو انحراف عن طريق النجاة , وإن كان من خلل في تفكير بعض المحسوبين على تيارات التدين السياسي فإن ذلك لا يمكن أن يؤخذ على أنه خلل في مسار الفكر الديني.
وإذا كنا نبحث عن المسار الصحيح فلابد أن نرجع إلى العلماء المستنيرين من أهل الاختصاص , وألا نعمم الأحكام على الناس بالانغلاق أو سوء الفهم أو ضعفه أو عدم القدرة على مواكبة العصر , وإن كنا نستشعر بل نوقن أننا في حاجة إلى المزيد من بذل الجهد في التدريب والتطوير والتحديث والعمل على معايشة الواقع ومواكبة العصر .
وينبغي ألا نقع في أخطاء العقود الماضية فنخلط بين محاربة التطرف ومحاربة التدين , والنظر إلى المتدينين على أنهم المتطرفون , لأننا إذا ضيقنا على علماء الدين المتخصصين أو أسرفنا في تعميم الأحكام أو الإقصاء من المشهد الثقافي أفسحنا المجال أمام الفكر المتطرف ودعاة التشدد والغلو من خلال تنظيماتهم السرية وإغراءاتهم لاجتذاب الشباب إلى صفوفهم , مؤكدين أن شعبا بلا دين , هو شعب بلا قيم , شعب بلا أخلاق , شعب بلا ضمير , شعب ينزع إلى عالم آخر غير عالم الحضارة والرقي , وأن الدين هو الغذاء الحقيقي للروح وللأمم وللحياة وللحضارة وللقيم والأخلاق ولإذكاء الضمير الإنساني وللأمان النفسي , ولتنظيم كثير من حركة حياة الأفراد والمجتمعات , ولو في ضوء قواعده العامة ومقاصده الكلية.
إننا في حاجة ألا نقابل شطط بعض الجماعات التي ذهبت إلى أقصى اليمين في التشدد والغلو والتطرف والإرهاب بأن نذهب إلى شطط مناقض بالذهاب إلى أقصى اليسار من التحلل والتسيب والتفريط , فقد قال الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى : ” ما أمر الله (عز وجل) في الإسلام بأمر إلا حاول الشيطان أن يأتيك من إحدى جهتين لا يبالي أيها أصاب الإفراط أو التفريط ، الغلو أو التقصير ، وقالوا : لكل شيء طرفان ووسط ، فإن أنت أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر ، وإن أنت أمسكت بالوسط استقام لك الطرفان ، وقد قيل لابن عباس (رضي الله عنه) : حب التناهي شطط ، خير الأمور الوسط ، هل تجد هذا المعنى في كتاب الله (عز وجل) ؟ فقال (رضي الله عنه) : في أربعة مواضع ، قوله تعالى : ” وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً ” (الإسراء :29) وقوله تعالى : ” وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ” (الفرقان : 67) وقوله تعالى :” وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً” (الإسراء : 110) , وقوله تعالى : ” قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ” (البقرة : 68).
ولذا فإننا إذا أردنا أن نقضي على التشدد من جذوره فلا بد من أن نقتلع التشدد من جذوره أيضا، وبنفس النسبة والمقدار ، فلكل فعل له رد فعل مساوٍ له في القوة ومعاكس له في الاتجاه ، مما يجعلنا نحذر من أن الدعوة إلى الإلحاد المسيس والموجه لهدم مجتمعاتنا وإلى الإباحية أو الخلاعة أو المجون أو العري هي قنابل موقوتة مثل قنابل المتطرفين سواء بسواء ، فأخطاء دعاة الانحلال الموجهة المقصودة أو غير المقصودة هي أكبر وقود لتغذية التطرف , حيث توفر للمتطرفين حججا شكلية لتضليل الشباب وتجنيدهم وإيهامهم بأن دولهم لا تريد الدين ، بل تحاربه ، مما يسهل لها عملية استقطابهم وتجنيدهم ، وهذا يتطلب منا اليقظة والفطنة والحذر , والوسطية والاعتدال في كل شئون حياتنا ومناحي تفكيرنا وجوانب ثقافتنا أو تثقيفنا وفي فننا وإبداعنا ، إذ لا يمكن لمسار ما أن يغرد منفردا أو أن يسبح في عالم وحده ، أو أن يعمل في الهواء الطلق بمنأى عن المسارات الأخرى التي لا غنى له عن النظر بعين الاعتبار إليها , إذا كنا نؤمن بأصول علوم الاجتماع والعمران وبناء الحضارات على أسس راسخة لا أسس واهية .