الجماعات الإسلامية بين الحقيقة والسراب
بداية لا بد أن نفرق تفريقا واضحا لا لبس فيه بين الإسلام وبين ما يعرف بالجماعات الإسلامية، وأن نؤكد أن الإسلام ليس هو تلك الجماعات ، ولا هذه الجماعات هي الإسلام ، بل إن هذه الجماعات السياسية هي التي فرقت كلمة المسلمين ونالت من عظمة الإسلام بأخطائها التاريخية والقاتلة أحيانا ، ولولا أن الإسلام يحمل في ذاته جوانب عظمته ومقومات وجوده ، ولولا بقية مخلصة قال فيها النبي (صلى الله عليه وسلم) : ” لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَّا مَا أَصَابَهُمْ مِنْ لَأْوَاءَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ ” ، لكان الأمر أكثر خطورة وإيلام .
ولا شك أن أخطر ما واجهه الإسلام وما يواجهه عبر تاريخه الطويل ، وبخاصة في عصرنا الحديث، هو متاجرة تلك الجماعات بالدين وتوظيفها له في خدمة أغراضها ومصالحها ، ومحاولتها اتخاذه مطيّة لاعتلاء سدة الحكم ، وتحقيق المكاسب والثروات ، بل قد يصل الأمر إلى خدمة أعداء الأمة وخيانة الأوطان تحت التستر بعباءة الإسلام لأجل تحقيق هذه المنافع.
وقد دفعني إلى كتابة هذا المقال دفعا قراءتي لكتاب هام جدير بالتأمل والنظر أهداه إليّ مؤلفه الدكتور / جمال سند السويدي مدير عام مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية وأستاذ العلوم السياسية في جامعة الإمارات العربية المتحدة تحت عنوان : ” السراب ” ، حيث يرى أن حال الملايين من شعوب بعض الدول العربية والإسلامية ممن ظنوا في الجماعات الدينية السياسية خيرًا , واعتقدوا بامتلاكها مقدرة على إصلاح الأوضاع وتحقيق طموحاتهم التنموية والعبور بمجتمعاتهم إلى بر الحداثة والتطور , حال هؤلاء أقرب إلى حال من خُدع بظاهرة السراب , التي يخيل للناظر أنها شيء وهي ليست بشيء ، ويقول : لا أبالغ إذا قلت إن الخطر الذي يتعرض له الدين داخل العالمين العربي والإسلامي على يد الجماعات الدينية السياسية هو أشد وأقسى من الخطر الناجم عن أعدائه وكارهيه في الخارج .
وعندما تأملت في عنوان الكتاب وفي فكرته استدعيت إلى الذاكرة كلمة ” السراب ” في قوله تعالى : ” وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ” (النور : 39) ، وتذكرت بعض أيام السفر في وقت الظهيرة في بعض المناطق الصحراوية حيث يخيل إليك على بعد أن ثمّة ماءً على الطريق على مرمى البصر ، حتى إذا اقتربت منه لم تجد شيئا سوى ما كان من خداع ذلك السراب ، وعندما حاولت أن أربط بين ذلك وبين فكرة الكتاب وبين أوهام تلك الجماعات وجدت هذا الرباط وثيقا ، فلقد وعد بعض فاقدي العقل والفكر من منظري تلك الجماعات أتباعهم المخدوعين بهم بالمن والسلوى ، وزعم بعضهم أن جبريل (عليه السلام) نزل عليهم ليظل الإرهابيين بجناحيه ، وادّعى آخر أنه رأى المعزول إماما للحبيب محمد ( صلى الله عليه وسلم )، وما هي إلا خيالات وأوهام وأحلام نائم .
وكم ذا بهم من المضحكات |
ولـــــــــــــكنه ضحك كالبكا |
وكم ذا بهم من المخزيـــات |
بفقد جميع معاني الحيــــا |
إنهم لا يتورعون عن الكذب والخداع والتضليل والميكافيلية المقيتة ، وتربية عناصرهم على ذلك ، وتدريبهم على التقيّة وأن الغاية تبرر الوسيلة .
غير أن العلي القدير الحكيم الخبير الذي يُمهل ولا يُهمل عاقبهم على سرابهم بالسراب الذي يستحقونه ، فما أن وطأت أقدامهم سلم السلطة حتى اكتشف المجتمع والعالم خداعهم وكذبهم وأنانيتهم وشرههم للسلطة والمال والجاه ، وتنكرهم لشركاء الأمس وحلفائه ، وغدرهم بالجميع ، ونقضهم العهود والمواثيق ، فلفظهم هذا المجتمع بسرعة وحسم غير متوقعين إلا من رزقه الله البصيرة في قراءة المشهد ، ومن كانوا يعرفون طبيعة هذه الجماعات ، فلم يتزحزحو ا عن مواقفهم تجاهها ، فما أن لفظهم الناس وكافئوهم على زيفهم بما يستحقون من الرفض حتى جن جنونهم ، وانكشفت حقيقتهم ، وعادوا إلى سيرتهم الأولى من الغدر والخيانة قتلا وإفسادًا ، وسفكا للدماء البريئة ، وتخريبا لعامر البنيان الذي نهى الله (عزّ وجلّ) عن تخريبه .
وحتى يزيدوا من خداع عناصرهم أخذ من فقدوا عقولهم من منظريهم كوجدي غنيم يكفرون جميع معارضيهم وغير المنتمين لهم ، وانضم إليه آخرون في التحريض على الاغتيال واستهداف رجال الجيش والشرطة والقضاء والعلماء والمفكرين والإعلاميين من مخالفيهم ، مما لم يعد يحتمله دين ولا عقل ولا إنسانية .
غير أن هناك سرابا آخر يخدعون به من يدفعونهم دفعا إلى التفجير والتدمير هو أن جزاءهم الجنة بما فيها من نعيم مقيم .
والذي لا مرية فيه أن من يقوم بهذه العمليات منتحر يعجل بنفسه إلى جهنم وبئس المهاد ، غير أنهم للأسف الشديد أخذوا يستغلون الصبية والمعتوهين ومدمني المخدرات ليدفعوهم إلى الهلاك دفعا، وقد أعجنبي أحد المفكرين عندما قال لو جاءك من يقول لك : قم بعملية من هذه العمليات الانتحارية ولك الجنة ، فقل له : إن كان الأمر كذلك فلماذا لا تذهب أنت إليها ؟ ولماذا لم نجد أحدًا من أبنائهم قد ذهب إليها ؟ وصدق الله العظيم إذ يقول : ” وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ” ( البقرة :96) ، مما يتطلب الحذر منهم ومن سرابهم وخداعهم وزيفهم وكذبهم وضلالهم وإضلالهم .